وترجم له ترجمة موجزة شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد الجَزَري المتوفى سنة 833 هـ، في كتابه الكبير "غاية النهاية في طبقات القراء"، فذكر اسمه:» الحسن بن علي بن سعيد أبو محمد العُماني «([57])، وأثنى عليه بقوله:» إمام فاضل محقق «([58]).
ثم أشار إلى كتابين له في الوقف والابتداء في قراءة القرآن، ودلّ على إجادته وإحسانه وإفادته. قال:
له في الوقوف كتابان: أحدهما "المغني" والآخر "الْمُرْشِد"، وهو أتَمُّ منه وأبسط ([59]). أحسن فيه وأفاد. وقد قسم الوقف فيه إلى التام، ثم الحَسَن، ثم الكافي، ثم الصالح، ثم المفهوم، وزعم أنه تبع أبا حاتم السِّجْسْتاني ([60]).
ثم قال في رحلته إلى مصر:» وقد كان نزل مصر بُعَيْدَ الخمسمائة «([61]). ونحن نشك كثيراً في صحة تاريخ نزوله مصر، ونظنه غلطاً، إلا أن يكون قد عَمَّرَه الله عمراً طويلاً في حياته، جاوز فيه المئة السنة بسنوات عديدة.
وقد قال الإمام العماني نفسه إنه قرأ القرآن بحرف أبي عمرو بن العلاء على الشيخ أبي عبد الله اللاّلَكائي، إمام جامع البصرة ومقرئ أهلها، سنة اثنتين وتسعين وثلاثمئة (392 هـ) ([62])، وذكر إسناد قراءة هذا الإمام عن النبي صلى الله عليه و سلم.
ونعلم من هذه القولة الصريحة أنه كان رجلاً شاباً في أواخر القرن الرابع، قد رحل من موطنه عُمَان إلى مدينة البصرة، في سبيل الاستزادة من العلم هناك، ولأخذ القراءات من أئمة المقرئين فيها. وكانت البصرة حينذاك من أكبر مراكز العلم في العالم الإسلامي. ولا ندري، هل عاش طويلاً بعد هذا التاريخ، طوال القرن الخامس، حتى أدرك القرن السادس، ونزل مصر في أوائله وهو طاعن في السن، قد جاوز المئة بسنوات كثيرة من عمره؟ إننا لا نملك جواباً على هذا التساؤل. والله تعالى أعلم.
® ® ®
وتابع الإمام العماني رحلته في طلب العلم، فمضى إلى الأهواز، ولقي هناك شيخه وأستاذه الأكبر أبا الحسن الكُرَيْزِي في تاريخ لم يذكره، فأخذ عنه القراءات التي ضمّنها كتابه. قال في بيان ذلك:
ثم لم أزل أقرأ على الشيوخ، حتى دخلت الأهواز، فظفرت بأبي الحسن محمد بن محمد الكريزي البصري، رحمه الله. فعلّقت عنه هذه القراءات بوجوهها ورواياتها وطُرُقِها، في ثلاثمئة وخمسين ورقة ([63]).
ولم يقنع بأخذ هذه القراءات عن أستاذه، وكتابتها وتصحيحها بالقراءة عليه فحسب، بل طلب منه الإذن بروايتها كلها عنه. فأجابه إلى مطلبه. وهذا يعني أنه وثق به، وعرف تمكّنه في العلم والرواية. وهذه هي الإجازة في العرف القديم. وإجازة الشيخ طالب العلم في الرواية عنه تعادل في القديم مرتبة الشهادة العالية التي ينالها الطالب الباحث في نهاية المطاف في أيامنا الحاضرة، مثل نيل شهادة الدكتوراه بإشراف أستاذ عالم معروف.
قال في شأن مَناله الإجازة:
فلما وقع الفراغ من التعليق وتصحيحه، وقراءته عليه، قلت له: أتأذن لي أن أروي عنك هذه كلَّها؟ فقال لي: نعم. فلم أقنع باستئذانه دفعة واحدة، حتى عاودته مراراً كثيرة في مجالس عِدّة. كلّ دفعة أقول له: أتأذن لي أن أروي عنك هذه، وأُقْرِئَ بها مَنْ شئت؟ فيقول لي: نعم. ثم مكثت دهراً، بعد التعليق، أعرض عليه القرآن تلاوة، قراءة بعد قراءة، ورواية بعد أخرى ([64]).
ولم يكتف بما اكتسب من العلم، والحصول على الإجازة العلمية من الشيخ بالإقراء والرواية عنه، بل زاد فالتمس منه أن يعرّفه شيوخه الذين تلقّى منهم قراءاته، فأجابه إلى هذا الملْتَمَس. ولا نرى هذه الموافقة إلا دليلاً على ثقته بعلمه وأمنه على مبلغ أمانته فيه. قال في بيان ذلك:
ثم قلت له: أفلا تعرّفني شيوخك الذين أخذتها عنهم؟ فدفع إلينا صحيفة شحنها أسماء أستاذِيه وشيوخه، وهم جِلّة أصحاب أبي بكر ابن مجاهد، والنقّاش، والفضل بن شاذان الرازي، والمعدّل وهو الذي يباهي به البصريون ويعظمونه. فذكر في الصحيفة الأسانيد بطولها، مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم. ([65]).
® ® ®
انتهت رحلة العلم. وفي زمن لا نعرفه، ولم يذكره هو نفسه، عاد الإمام العماني إلى مستقرّه في وطنه عُمَان، وقد استوى على عرش العلم شيخاً كبيراً بارعاً في علم القراءات، وإماماً محيطاً بأصوله إحاطة تامة، ضليعاً وعارفاً قراءات الأئمة واتجاهاتهم ووجوه اختلافاتهم معرفة كاملة.
¥