إنه ينبغي أن تُعرض موضوعات العقيدة بالأسلوب الذي تعرض فيه أبواب الأحكام، وذلك بجمع أطراف الموضوع والنظر فيما عند المخالفين من الأدلة والاجتهادات، ثم ترجيح القول الراجح بالبراهين المقنعة بهدوء وروية، ومن غير هجوم على المخالفين ولا اتهام لهم في معتقداتهم؛ وذلك لأن عرض الموضوعات بشيء من العنف والاعتزاز بالرأي والتهوين مما عند الآخرين يورث في الطلاب الناشئين نوعًا من الشدة في التمسك بالمذهب العقدي الذي نشؤوا عليه؛ لشعورهم المهيمن بأنه الحق الذي لا يقبل النظر، وأن الذي مع الآخرين هو الباطل الذي لا يقبل النظر! الحق ليس بالكثرة ولا بالقلة
وبعض أهل العلم ينظرون إلى الحق من منظار القلة أو الكثرة، فمنهم من يرى أن الحق مع القلة، ويستدلون على ذلك بحديث الفِرَق ([11])، ويقولون: إننسبة أهل الحق إلى أهل الباطل كنسبة واحد إلى ثلاثة وسبعين، وهذا لا دليل فيه على أن أهل الحق عددهم قليل؛ لأنه ليس في الحديث ما يفيد تساوي عدد أهل هذه الفرق، بل إن في إحدى روايات هذا الحديث: فقلنا: انعتهم لنا، فقال: "السواد الأعظم"، ذكره الحافظ الهيثمي من رواية الحافظ الطبراني، وقال: رجاله ثقات، وهذا يفيد بأن أصحاب الفرق الضالة يشذون عن أهل الحق الذين هم جمهور المسلمين.
وكذلك يستدلون بحديث الطائفة المنصورة ([12])، وليس فيه دليل على ما ذهبوا إليه؛ لأن الصفات البارزة التي تميز الطائفة المنصورة هي الصفات الجهادية كما سيأتي في الكلام على هذه الطائفة، فالمعالم المميزة لها صفات عملية، وليست مجرد صفات علمية، والموضوع الذي نحن بصدده يرتكز على الجانب العلمي.
وربما استدلوا بقول الله تعالى: " و إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك ...... [الأنعام:116]، وهذا الاستدلال بعيد
عن الصواب؛ لأن هذه الآية نزلت في الكفار، وهم أكثر أهل الأرض في وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تنطبق هذه الآية على العلماء المجتهدين من المسلمين.
وبعض أهل العلم يرون أن الحق مع الكثرة؛ لأنهم هم الجمهور، وقد اعتبر العلماء قول الجمهور في الترجيح.
والصواب -والله أعلم- أن ينظر إلى الحق من خلال الأدلة الشرعية، وأن ينظر في تفسيرها دلالات اللغة العربية، مع مراعاة حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص والمجمل على المبين، وحمل الكلام على الحقيقة إلا إذا دلت القرائن على لزوم حمله على المجاز .. ونحو ذلك.
لمحة تاريخية عن الموضوع:
....
.........
................
ـ[خلوصي]ــــــــ[14 Nov 2008, 10:31 م]ـ
لمحة تاريخية عن الموضوع
لقد دخل أهل السنة والجماعة في صراع جدلي عنيف في القرنين الثاني والثالث مع المخالفين الذين شذوا عن منهج الحق، وخاصة مع الجهمية والمعتزلة، وبلغ الصراع ذروته حينما تمكن المعتزلة من قلب أمير المؤمنين المأمون؛ فأقنعوه بأفكارهم الشاذة التي من أهمها القول بخلق القرآن الكريم! وتحوَّل الصراع الجدلي إلى فتنة مرَّ بها علماء السنة كما هو معروف، وذلك فيما بين عامي ثمانية عشر ومائتين وأربعة وثلاثين ومائتين، وكان ذلك التمكين سببًا في انتشار مذهب المعتزلة، إلى أن خُضدت شوكتهم في عهد أمير المؤمنين المتوكل الذي كان مقتنعًا بمنهج أهل السنة، فصار الصراع بينهم وبين أهل السنة فكريًّا خاليًا من الضغوط السلطانية، فألَّف عدد من علماء السنة كتبًا في الرد على الجهمية والمعتزلة، ومن هؤلاء العلماء أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وعبد الله بن مسلم بن قتيبة، وعثمان بن سعيد الدارمي، وعبد الرحمن بن أبي حاتم.
وقد اشتهر أهل السنة آنذاك بالانتساب إلى الحديث النبوي، فكانوا يسمَّون "أهل الحديث"، ولما برز الإمام أحمد بن حنبل في الدفاع عن السنة نُسب أهل السنة إليه فكانوا يسمَّون "الحنابلة".
وقد ظلت المعارك الجدلية قائمة بين علماء السنة ومخالفيهم من المعتزلة والجهمية، إلى أن برز في الميدان أحد أقطاب المعتزلة؛ وهو الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، حيث رفض مذهب المعتزلة، وأعلن على المنبر توبته، وذلك في عام ثلاثمائة، وقام بمناظرة علماء الاعتزال حتى أفحمهم وحصرهم، وقد ساعده على ذلك حدة ذكائه وقوة فهمه، ومعرفته الدقيقة بمذهب المعتزلة؛ حيث بقي معهم أربعين سنة، وقد بدأ آنذاك نجمهم بالأفول وتقوقعوا في دوائر ضيقة.
¥