وفي ذلك يقول الفقيه أبو بكر الصيرفي: كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى نشأ الأشعري فحجرهم في أقماع السمسم ()!
وقد أعلن أبو الحسن الأشعري عند رجوعه إلى مذهب أهل السنة أنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وفي ذلك يقول: "قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها؛ التمسك بكتاب ربنا ? وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما رُوي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم مفخم" ().
وقد كان من أسباب شهرته وانتشار مذهبه أنه حاول التوفيق بين الاتجاهات العقدية السائدة في عصره، حيث اعتمد في مذهبه على الكتاب والسنة، ثم أثبت بعض الصفات على ظاهرها، وأوَّل بعضها الآخر، فكان دفاعه عن الكتاب والسنة وردُّه القوي على المعتزلة والجهمية قد جعل له حظوة كبيرة عند أهل الحديث، وتأويله لبعض الصفات قد جذب إليه قطاعًا من العلماء لا يرون الأخذ بالظاهر في بعض نصوص الصفات.
وقد سُمِّي أتباع هذا المذهب "الأشاعرة"، وظل الوئام بين أهل الحديث وبين الأشاعرة، وأصبحوا جميعًا ضد المعتزلة ونحوهم، وفي ذلك يقول الإمام ابن تيمية: "والأشعرية فيما يثبتونه من السنة فرع على الحنبلية، كما أن متكلمة الحنبلية فيما يحتجون به من القياس العقلي فرع عليهم، وإنما وقعت الفُرقة بسبب فتنة القشيري" ().
ويذكر ابن تيمية عن أبي القاسم بن عساكر أنه قال: "ما زالت الحنابلة الأشاعرة في قديم الدهر متفقين غير مفترقين، حتى حدثت فتنة ابن القشيري" ().
ويقول أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر في هذا المعنى: "ولم تزل الحنابلة ببغداد في قديم الدهر على مَرِّ الأوقات تعتضد بالأشعرية على أصحاب البدع؛ لأنهم المتكلمون من أهل الإثبات، فمن تكلم منهم في الرد على مبتدع فبلسان الأشعرية يتكلم، ومن حقق منهم في الأصول في مسألة فمنهم يتعلم، فلم يزالوا كذلك حتى حدث الاختلاف في زمن أبي نصر القشيري" ().
ويلخص الحافظ ابن رجب هذه الفتنة بعد أن ذكر ما قام به الحنابلة من إنكار المنكرات عام أربعة وستين وأربعمائة؛ بقوله: ومضمون ذلك أن أبا نصر القشيري ورد بغداد سنة تسع وستين وأربعمائة، وجلس في النظامية، وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وكان المتعصب له أبو سعد الصوفي، ومال إلى نصره أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام الملك الوزير يشكو الحنابلة ويسأله المعونة، فاتفق جماعة من أتباعه على الهجوم على الشريف أبي جعفر في مسجده والإيقاع به! فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد خصومة إن وقعت، فلما وصل أولئك إلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجر، فوقعت الفتنة، وقُتل من أولئك رجل من العامة وجرح آخرون وأُخِذت ثياب!!
وأغلق أتباع ابن القشيري أبواب سوق مدرسة النظام، وصاحوا: المستنصر بالله، يا منصور؛ يعنون العبيدي صاحب مصر، وقصدوا بذلك التشنيع على الخليفة العباسي، وأنه ممالئ للحنابلة، لا سيَّما والشريف أبو جعفر ابن عمه ... إلخ ().
ولأبي الحسن الأشعري كتب صرح فيها بإثبات الصفات وعدم التأويل؛ مثل كتاب "الإبانة عن أصول الديانة"، ولكن منهجه الذي اشتهر عنه والذي عليه من انتسب إليه؛ هو إثبات بعض الصفات وتأويل بعضها.
وهذا الأمر لا يهمنا في هذه الرسالة؛ لأنه ليس الغرض هو التحقيق في مذهب أبي الحسن الأشعري، وإنما المقصود هو المذهب المشهور الذي يُنسب إليه ويأخذ به طوائف من العلماء، ولا يزال يتبعه عدد كبير من العلماء وعامة المسلمين.
وفي الوقت الذي ظهر فيه أبو الحسن الأشعري في العراق تقريبًا ظهر أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي في بلاد ما وراء النهر، وقد التقَتْ أفكارهما على اعتماد الكتاب والسنة في الاستدلال، مع إثبات الأسماء وبعض الصفات، وتأويل بعض الصفات، على خلافٍ بينهما في ذلك، والرد على المعتزلة والجهمية في هذا الباب.
¥