تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ونستفيد من هذا البيان أن أهل السنة كانوا في القرون الثلاثة الأولى لا يتعرضون لتأويل شيء من نصوص الأسماء والصفات على خلاف ظاهره، إلا بشكل نادر؛ كألفاظ المعية، ثم حدث الصراع الفكري بينهم وبين المعتزلة الذين نفوا جميع الصفات.

وقد كانت ردود أهل السنة تعتمد في ذلك العهد على الاستدلال بالكتاب والسنة، واستبعاد التوغل في المباحث العقلية.

وبعد ظهور أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي في بداية القرن الرابع

صار أهل السنة على اتجاهين:

الأول: التمسك بظاهر النصوص الشرعية؛ وذلك في إثبات معاني الصفات مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، وقد سُمِّي هؤلاء أهل الحديث ثم غلب عليهم التسمية بالحنابلة. والثاني: التمسك بظاهر النصوص في بعض الصفات، مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، وتأويل بعضها الآخر؛ لأنه في نظرهم يوهم التشبيه، وقد اشتهر بهذا المذهب الأشاعرة والماتريدية.

وكان هؤلاء مقبولين عند أهل الحديث من بداية القرن الرابع إلى ما بعد منتصف القرن الخامس؛ لدفاعهم عن السنة ووقوفهم القوي ضد الجهمية والمعتزلة، ولم يتجاوز الخلاف بينهم حدود الحوار العلمي، مع التورع عن الاتهام في العقيدة والحكم بالضلال أو البدعة، وإنما كانوا يعتمدون على مبدأ الحكم بالخطأ على المخالف إذا كان من أهل الاجتهاد، إلى أن ظهر ابن القشيري الذي سبق ذكره، وكان متعصبًا لمذهبه إلى حد الغلو والتشدد، فحوَّل الخلاف الدائر بين طائفتي أهل السنة إلى شقاق ونزاع، ومن ذلك الوقت كان الصراع العنيف يظهر على فترات من التاريخ، وأصبح الحكم على المخالفين يتسم بالاتهام بالضلال والبدعة وبالكفر أحيانًا! كما سيتبين من عرض نماذج من ذلك.

وفي العصر الحديث بلغ الصراع العقدي أشده بين بعض علماء الطرفين، وتبادل بعضهم الاتهامات بالضلال والبدعة، خصوصًا من طلاب العلم.

والمنهج الحق أن تتسع صدور الفريقين للنقد الهادف، وأن يكون هناك حوارات علمية تقوم على اعتبار قواعد الأخوة الإسلامية والأدب العلمي، مع استبعاد قضية البراءة من المخالفين ووصفهم بالابتداع والضلال، فضلاً عن الفسق والكفر.

إن هذا الصراع الفكري بين علماء المسلمين قد شغلهم عن ميادين المعركة الحقيقية مع المخالفين من الأعداء أو المنتسبين للإسلام، وإن من أهم علامات نجاح الداعية أن يدرس واقع الجاهلية المعاصرة له بتمعن وتعمق، مع فهم واقع المسلمين الفكري والسلوكي، ثم يركز دعوته على محاربة المخالفات السائدة في عصره، فهذا يجاهد في ميدانه الحقيقي الحيوي. هذا؛ وإن من أبرز الأمثلة على النجاح في هذا المجال دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه قد نجح نجاحًا باهرًا، حيث قام بتشخيص المخالفات المعاصرة له، فقام بالرد على المخالفين بعلم راسخ وهدوء وروية أحيانًا، وبعنف أحيانًا أخرى حينما يقتضي المقام ذلك، فاستطاع أن يشد طلاب العلم إلى الكتاب والسنة، وأن يقلص من الآثار الفكرية البعيدة عن هذا المنهج، ولكن ليس من الحكمة ولا من فقه الدعوة أن نعيد المعارك العلمية التي خاضها ابن تيمية في هذا العصر؛ لأن لكل عصر مخالفات متميزة وصورًا للجاهلية تختص بكل عصر.

كذلك فإن من أبرز أمثلة هذا النجاح دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب فإنه قد نجح في دعوته نجاحًا كبيرًا، فهو قد قرأ كتب ابن تيمية واستفاد منها، ولكنه لم يسر على منهاجه في الدعوة، وإنما قام بتشخيص المخالفات المعاصرة له، ثم قام بتركيز دعوته على تصحيح المفاهيم الإسلامية حول تلك المظاهر، فنجده مثلاً في كتابه المتميز الذي يعتبر أهم كتبه؛ وهو كتاب "التوحيد الذي هو حق الله على العبيد" .. يركز في جُلِّ أبوابه على تصحيح المفاهيم حول توحيد الألوهية، وذلك بعد دراسة المخالفات في ذلك في عصره وعلاجها على ضوء الكتاب والسنة، بينما لم يعقد للحكم بما أنزل الله تعالى إلا بابًا واحدًا؛ وذلك لأن المحيط الذي يعيش فيه لا يحتاج إلى ذلك، حيث إن الأحكام تقوم على المحاكم الشرعية، كما أننا نجده لم يعقد للأسماء والصفات إلا بابًا واحدًا؛ لأن المخالفات السائدة في محيطه ليست في هذا المجال، فكان ذلك من أسباب نجاحه في تصحيح المفاهيم السائدة في مجتمعه وإقامة دولة إسلامية كبيرة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير