وإذا كانت قضايا العقيدة من الأمور الثوابت؛ التي لا يتغير فيها الاجتهاد بتغير الزمان، فكذلك أمور العبادات في الفقه، ومع ذلك اختلف العلماء في بعض أحكامها ولم يترتب على ذلك ما ترتب على الخلاف في أمور العقيدة.
ولا يعني القول بجواز الاجتهاد في أمور العقيدة أن يُفتح الباب على مصراعيه لكل من هبَّ ودبَّ، بل إنه ينطبق عليه ما ينطبق على الاجتهاد في أمور الفقه المماثلة من الشروط والاعتبارات، فما يشترط للاجتهاد في العبادات يشترط توافره في العقائد.
وإن أول أسباب انقسام الأمة وظهور الفرق كان بسبب الاجتهاد في أمور الدين ممن ليسوا أهلاً للاجتهاد؛ حيث اجتهد الخوارج في فهم أمور الدين ولم يكونوا من أهل العلم فضَلُّوا وأضلوا من تأثر بهم، وعانت منهم الأمة الإسلامية ألوانًا من البلاء،
وما يزال يخرج من ضئضئهم من هم على شاكلتهم في قلة الفهم وادعاء الاجتهاد، والخروج على المسلمين بأفهام غريبة تشبه أفهام أسلافهم من الخوارج.
وكما أن الخوارج قد حكم عليهم العلماء بالشذوذ؛ لحكمهم -مثلاً- على أصحاب الكبائر بالكفر والخلود في النار .. فإن الذين يخالفون في حكم الأمور الشركية الواضحة؛ كدعاء غير الله تعالى والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا هو جل وعلا، يعدُّون شاذين عن اعتقاد أهل السنة؛ لأنهم ليسوا من العلماء المتأهلين للاجتهاد؛ حيث فقدوا شرطًا مهمًّا من شروط صحة الاجتهاد وهو العلم بالكتاب والسنة، فلا عبرة بقول من أجاز ذلك، بل يُحكم عليه بالضلال لمخالفته الصريحة الواضحة للكتاب والسنة.
نماذج من الخلاف العقدي بين العلماء:
إلى جانب ما سبق ذكره من الخلاف بين العلماء في موضوع صفات الله جل وعلا؛ فقد اختلف بعضهم في فهم بعض النصوص الشرعية، واختلف بسبب ذلك اجتهادهم وحكمهم في تلك المسائل التي اختلفوا فيها؛ وذلك كاختلافهم في مسألة شدِّ الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فمنع من ذلك بعضهم بناء على فهمهم لعموم المستثنى منه في قول رسول الله ج:"لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى"، أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري م ([1])؛ فجعلوا شد الرحال لهدف ديني لا يجوز إلا إلى المساجد الثلاثة، وأجاز بعضهم ذلك باعتبار أن الحديث خاص في المساجد، وأن المستثنى منه عموم المساجد للعبادة فيه إلا للمساجد الثلاثة ([2]).
كما اختلفوا في جواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، فأجازه بعضهم مستدلاً بحديث الأعمى، وهو ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي -رحمهما الله- من حديث عثمان بن حنيف ط: أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك"، قال: فادعُهْ، قال:
فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي لتُقضى حاجتي، اللهم فشفعه في"، قال: ففعل الرجل؛ فبرأ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ([3])، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله ([4])، ومنعه بعضهم استدلالاً بعدم توسل الصحابة رضي الله عنهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، كما أخرج أبو عبدالله البخاري -رحمه الله- من حديث أنس بن مالك ط: أن عمر بن الخطاب ط كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبدالمطلب ط، فقال: اللهم إن كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا، قال: فيُسقون ([5]).
وليس من مقاصد هذه الرسالة بيان الراجح من أقوال العلماء، وإنما المقصود الإشارة إلى عدم جواز الحكم على المخالفين من أهل الاجتهاد والتقوى بالابتداع والضلال، وإنما إذا كان المخالف يعتقد خطأهم يبين أنهم أخطؤوا في اجتهادهم، ويوضح ما يراه الصواب في ذلك.
أثر الخلاف في تفريق جماعة المسلمين
([1]) البخاري (1189)، في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، مسلم (827)، في الحج.
([2]) انظر في هذا الموضوع: فتح الباري (3/ 63).
([3]) مسند أحمد (4/ 138)، سنن الترمذي (3578)، في الدعوات.
([4]) صحيح الجامع الصغير (1290).
([5]) البخاري (1010)، في الاستسقاء.
ـ[خلوصي]ــــــــ[21 Nov 2008, 12:05 م]ـ
.........
أثر الخلاف في تفريق جماعة المسلمين:
¥