تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن جماعة المسلمين تقوم على علماء الدين؛ لأن المسلمين تبع لعلمائهم، فإذا اتفق علماء المسلمين على أمر وسط لا يفرقهم ولا يفسد ذات بينهم؛ فإن جماعة المسلمين تقوم بهم، سواء اتفقوا على رأي واحد أو تمسك كل فريق منهم باجتهاده؛ لأنهم حينما يأخذون جميعًا بمنهج تخطئة المخالف المجتهد وعدم الحكم عليه بضلال أو ابتداع؛ فإن وحدة القلوب تظل قائمة، وبإمكانهم بما بينهم من مودة وتآلف أن يتفاهموا على الأمور العملية التي لا بدَّ فيها من وحدة الكلمة، وإذا تم ذلك بين العلماء فإن هذه الروح الأخوية والمودة الإيمانية تسري إلى كل طبقات الأمة.

إن الذين يضعون في حسابهم أهمية قيام جماعة المسلمين وتوحيدهم على هدف واحد؛ تكون دعوتهم أعظم تحصينًا من حدوث الفرقة في الدين؛ ذلك لأنهم يأوون في دعوتهم إلى ركن شديد؛ وهو الدعوة إلى اجتماع كلمة المسلمين، فأي خلاف يجري بين من يؤمنون بأهمية هذا المطلب العظيم، فإنه يعالج سريعًا إذا علموا بأنه سيكون له أثر في تحطيم هذا الأصل أو إضعافه.

ومن الأدلة الواضحة على أهمية لزوم الجماعة واجتناب الفرقة؛ ما جاء في قول الله تعالى حكاية عن هارون عليه الصلاة والسلام "قال يا ابن أمَّ لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني اسرائيل و لم ترقب قولي " [طه:94]، فهذه الآية تدل على أن من الأمور المهمة التي اتفق عليها موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام- وجوب الحفاظ على جماعة بني إسرائيل، واجتناب كل الأمور التي تفرق وحدتهم، حتى أصبحت خشية الفرقة مانعًا لهارون من الإنكارالشديد على قومه حينما عبدوا العجل، مع أنهم قد وقعوا في أمر من الشرك الأكبر.

فكان عمل هارون الاكتفاء بالنصح والوعظ وبيان حقيقة التوحيد والشرك، ولو أنه انتقل إلى مرحلة الإنكار بالقوة فقام بتحطيم العجل فإن بني إسرائيل سينقسمون إلى فرقتين؛ فرقة تؤيده، وفرقة تخالفه، وحيث إن الذين عبدوا العجل لم يصروا على الشرك وهم يعلمون أنه شرك، وأنهم قد دخلوا في شبهة لبَّسها عليهم السامري، وأنهم أظهروا الإصرار على ما هم عليه حتى يرجع إليهم موسى؛ فإن هارون غلَّب جانب الإبقاء على جماعتهم، وهو يعلم أن مخالفتهم تلك ستنتهي حال عودة موسى.

فإذا كان هارون قد تركهم على شركهم ذلك حفاظًا على جماعتهم؛ فإن مما ينبغي ويتأكد الحذر من التفرق بين المسلمين من أجل الخلاف على قضايا جزئية؛ سواء كانت في مجال العقيدة أو في مجال العمل.

ونجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على تآلف مجتمع الصحابة رضي الله عنهم، والابتعاد بهم عن جميع الأسباب التي تؤدي إلى حدوث النزاع والفرقة بينهم، فمن ذلك ما جاء في حديث أخرجه الحافظ أبو عبدالله البخاري من رواية أبي هريرة ط قال: سمعت رجلاً قرأ آية، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: "كلاكما محسن، ولا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا" ([1]).

فعلى الرغم من كون كل واحد منهما محسن وعلى الصواب لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءتين، فإنه كره ما جرى من هذين الصحابيين مما يشعر بالتنازع، ونهى الصحابة عن الاختلاف، وبين أنه يؤدي إلى الهلاك.

ومن ذلك عفوه صلى الله عليه وسلم المتكرر عن زعيم المنافقين عبدالله بن أُبَيِّ بن سلول، على الرغم من تفوهه بكلمات الكفر والإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما جرى منه في غزوة المريسيع، وقد أخرج خبره في ذلك الإمام البخاري من حديث جابر بن عبدالله م قال: كنَّا في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار (أي ضربه برجله من الخلف)! فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما بال دعوى جاهلية؟! "، قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: "دعوها؛ فإنها منتنة"، فسمع بذلك عبدالله بن أُبَيٍّ فقال: أَوَ قد فعلوها؟! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل!! فبلَغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم،:

"دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" ([2]).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير