وأخرجه محمد بن إسحاق مطولاً، وفيه قال: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عبدالله -يعني ابن عبدالله بن أُبَيٍّ- أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبدالله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بدَّ فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه! فوالله لقد علمَت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله؛ فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبدالله بن أبي يمشي في الناس، فأقتلَه، فأقتل رجلاً مؤمنًا بكافر؛ فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا"!!
وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرحين بلغه ذلك من شأنهم: "كيف ترى يا عمر؟! أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله؛ لأرعدت له آنُفٌ ([3]) لو أمرتها اليوم بقتله لقتلتْه"!
قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري ([4]).
وهكذا نجد الصحابة رضي الله عنهم يهتمون بجمع كلمة المسلمين، والقضاء على كل سبب يؤدي إلى فرقتهم، ومن ذلك اهتمام أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بجمع المسلمين على مصحف واحد، وإحراق بقية المصاحف التي تحتوي على أحرف أخرى، مع ثبوتها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم؛ وذلك حينما شعر بأنها أصبحت سبباً في وقوع الخلاف بين المسلمين، ووافقه على ذلك الصحابة.
غير أنه لا يجوز في سبيل الوصول إلى هذا الهدف أن يتهاون الدعاة في تصحيح مفاهيم المسلمين عن الإسلام، ومعالجة الانحرافات الفردية والجماعية، بل يجب عليهم الاهتمام بذلك، مع مراعاة عدم تأثير هذه الدعوة على إضعاف الهدف الكبير؛ وهو جمع كلمة المسلمين.
وهذا هو المنهج الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ وهو الجمع بين الأمرين، مع إعطاء الأهمية لتحقيق الهدف الكبير؛ وهو قيام جماعة المسلمين وحمايتها من الضعف والانهيار.
إن التفرق في الدين أقوى الوسائل التي تضعف جماعة المسلمين وتفرق شملهم؛ لأن التفرق في هذه الحال يكون بين طوائف مختلفة، كل واحدة ترى أن الحق معها فهي تدافع عما تراه هو الحق بحماسة شديدة، وهذا بتأثيره يؤدي إلى حدوث النزاع والخلاف بين هذه الطوائف، وإن أي نزاع وخلاف يكون بين طوائف المسلمين فهو خدمة تُقدَّم لأعداء الإسلام، فيستفيدون منها في محاولتهم القضاء على الإسلام والمسلمين.
فقد جاء –مثلاً- في كتاب (ريتشارد. ب. ميتشل) إلى رئيس هيئة الخدمة السرية بالمخابرات المركزية الأمريكية، ضمن التوصيات التي قدمها لغزو المسلمين فكريًّا: "تعميق الخلافات المذهبية والفرعية وتضخيمها في أذهانهم" ([5]).
وما جاء في هذه التوصية مطبَّق تمامًا في المجتمع الإسلامي المعاصر؛ فهل هو ناتج عن سعيهم الحثيث في إيقاع الفرقة والخلاف بين المسلمين؟ أم أنَّ المسلمين قدَّموا لهم هذه الخدمة من غير أن يبذلوا فيها جهدًا؟! أم أن واقع المسلمين جامع بين المصيبتين؟!
وهكذا تبين لنا أن بعض المختلفين في بعض أمور العقيدة يرتبون المحبة والبغض على الوفاق أو الخلاف في أمور العقيدة، وإن كان المخالف مجتهدًا وهو من أهل الاجتهاد أو كان تابعًا لمن كان كذلك، وهذا خطأ كبير وخطر عظيم، فالمحبة والبغض يترتبان على مقدار ما عند المسلم من التقوى أو ظلم النفس، فنحب المتقين لتقواهم، وإن خالفونا في باب العلم في بعض مسائل الدين إذا كان خلافهم على الوضع المذكور؛ لأنهم لم يتعمدوا مخالفة شريعة الله تعالى، ونكره الظالمي أنفسهم؛ وهم المقصرون في جانب الواجبات أو المرتكبوبعض المعاصي، بقدر ما فيهم من المخالفة؛ لأنهم تعمدوا مخالفة شريعة الله -جل وعلا- في ذلك، وإن وافقونا في باب العلم، ونحبهم بقدر استقامتهم، فنحن نحبهم لما هم فيه من الهداية في مجالي العلم والعمل، ونبغضهم لما هم فيه من المخالفة المتعمدة.
¥