تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم ذكر أن السلطان أمر بالإمساك عن الكلام في ذلك الموضوع، إلى أن اتفق وصول السلطان الكامل من الديار المصرية، وأنه كان اعتقاده صحيحًا على مذهب الأشعري رحمه الله في الاعتقاد، وأنه بحث الموضوع مع السلطان الأشرف وأنكر عليه إسكاته أهل الحق، وأنه كان عليه أن يُمكِّن أهل السنة من أن يلحنوا بحججهم وأن يُظهروا دين الله، وأن يشنق من أولئك المبتدعة عشرين نفسًا ليرتدع غيرهم" ().

فهذه مقتطفات مما دار حول هذا الموضوع، وكان الدافع لهذا التصلب وإصدار الأحكام القاسية على المخالفين -التي وصلت إلى حد التكفير- هو اعتقاد أولئك العلماء من الطرفين بأن موضوعات العقيدة لا تدخل في مجال الاجتهاد، وأن المخالف فيها يُحكم عليه بأنه مبتدع ضال، وربما حكموا عليه بالكفر، ولو أنهم نظروا إلى مسائل الاعتقاد بمثل نظرتهم إلى مسائل الفقه؛ لكان كل فريق يحكم على الفريق الآخر بأنهم مخطئون في اجتهادهم، ولم يقع ما وقع من الحكم بالابتداع والضلال والكفر.

ومن هذا الخبر يتبين لنا أن بعض الحكام قد وقعوا ضحية لذلك التشدد في الأحكام على المخالفين، وأنهم بحكم سلطتهم يحاولون ممارسة الضغوط على من يخالف معتقدهم، وكان من نتائج الانحراف في الحكم على المخالفين من أهل الاجتهاد أن الذين يثبتون مدلولات جميع نصوص الصفات على ظاهرها، وهم الذين أطلق عليهم الحنابلة .. لم يكونوا يستطيعون المجاهرة بمذهبهم بوضوح وقوة من القرن الرابع الهجري تقريبًا إلى نهاية القرن السادس تقريبًا؛ لأن السيادة في ذلك التاريخ للذين يؤوِّلون بعض تلك النصوص على خلاف ظاهرها؛ وهم الأشاعرة والماتريدية، وفي أواخر القرن السادس برز شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله تعالى، فشرح مذهب أهل الإثبات الكامل لظاهر النصوص بوضوح وإسهاب، ودافع عنه بقوة وصراحة، وقد جرت بينه وبين بعض المخالفين له من علماء عصره مناظرات علمية، وقد كانت بعض هذه المناظرات تتسم بشيء من الشدة والتحدي، وقد كان ابن تيمية متفوقًا في هذا المجال لحدة ذكائه وقوة ذاكرته وسعة علمه.

وقد ذكر الحافظ ابن رجب شيئًا من هذه المناظرات وما نتج عنها من ظهور ابن تيمية على مخالفيه، إلى أن ذكر أن بعض علماء مصر وقضاتها أرادوا أن يحكموا عليه من غير إجراء مناظرة بينه وبين مخالفيه، وكانت الشام تابعة لمصر آنذاك في الحكم، فطلبه العلماء بواسطة السلطان، فسافر من دمشق إلى القاهرة، وعقدوا له مجلسًا وادَّعوا عليه عند ابن مخلوف قاضي المالكية بأنه يقول: إن الله تعالى تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وأنه على العرش بذاته، وأنه يشار إليه بالإشارة الحسية.

وقال المدَّعِي: أطلب تعزيره على ذلك التعزير البليغ، يشير إلى القتل على مذهب مالك، فقال القاضي لابن تيمية: ما تقول يا فقيه؟ فحمد الله وأثنى عليه، فقيل له: أسرع ما جئت لتخطب، فقال: أَأُمنع من الثناء على الله تعالى؟! فقال القاضي: أجب فقد حمدت الله تعالى، فسكت الشيخ، فقال: أجب، فقال الشيخ له: من هو الحاكم فيَّ؟ فأشاروا: القاضي هو الحاكم، فقال الشيخ لابن مخلوف: أنت خصمي، كيف تحكم فيَّ؟! وغضب، ومراده: إني وإياك متنازعان في هذه المسائل فكيف يحكم أحد الخصمين على الآخر فيها؟! فأُقيم الشيخ ومعه أخواه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن، ثم رُدَّ الشيخ وقال: رضيت بأن تحكم فيَّ، فلم يُمَكَّن من الجلوس.

ويقال: إن أخاه شرف الدين ابتهل ودعا الله عليهم في حال خروجهم، فمنعه الشيخ وقال له: بل قل: اللهم هب لهم نورًا يهتدون به إلى الحق!! ثم حبسوهم أيامًا، وبعثوا بكتاب سلطاني إلى الشام بالحطِّ على الشيخ، وإلزام الناس -خصوصًا أهل مذهبه- بالرجوع عن عقيدته، والتهديد بالعزل والحبس، ونودي بذلك في الجامع والأسواق، ثم قرئ الكتاب بُسدَّة الجامع بعد الجمعة، وحصل أذى كثير للحنابلة بالقاهرة، وحُبس بعضهم، وأُخذت الإقرارات على بعضهم بالرجوع.

وقد بقي ابن تيمية في السجن في القاهرة، ثم نقل إلى سجن في الاسكندرية، وبقي فيه إلى أن انتهى حكم المظفر بيبرس الجاشنكير، وكان هذا الحاكم مائلاً مع أولئك العلماء الذين حكموا على ابن تيمية، وذلك ما بين سنة خمس وسبع وسبعمائة.

فلما عاد الحكم إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون أَخرج ابن تيمية من السجن وأكرمه، واستشاره في قتل القضاة الذين حكموا عليه بالقتل، فغضب ابن تيمية وأنكر عليه ذلك! وفي ذلك يقول قاضي المالكية ابن مخلوف: ما رأينا أفتى من ابن تيمية ()، سَعَينا في دمه، فلما قدر علينا عفا عنا ()!! وقد مُنع بعد ذلك عدة مرات من الفتوى وسُجن؛ بسبب اجتهاده في بعض المسائل الشرعية، إلى أن سجن في المرة الأخيرة سنتين وأشهرًا ومات في السجن رحمه الله تعالى؛ بسبب فتواه بمنع السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وقد انقسم العلماء في الحكم على ابن تيمية بسبب هذه الفتوى؛ فمنهم من عدَّ ذلك تنقيصًا في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذلك كفر، وهم ثمانية عشر على رأسهم القاضي الأخنائي المالكي، وأفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه، ومنهم من حكم عليه بأنه مجتهد مخطئ فهو مغفور له، وهم جماعة من العلماء، ومنهم جماعة من العلماء وافقوه في فتواه ().

ومِن عرض هذه المحن التي تعرض لها ابن تيمية -رحمه الله- يتبين لنا الخطأ الفادح الذي سار عليه جمع من العلماء في ذلك العصر، حيث حكم بعضهم على ابن تيمية بالكفر واستحلوا دمه، وحكم عليه آخرون بالابتداع والضلال، وحاولوا منعه ومنع العلماء الموافقين له من التدريس والإفتاء، ولو أنهم أخذوا بالمنهج الصحيح فحكموا عليه بأنه مجتهد مخطئ من وجهة نظرهم؛ لما حدثت تلك المحن الكبيرة التي تأذى بها عدد من العلماء، وفرقت صف المسلمين، ولا يمكن لأحد أن يدعي بأن ابن تيمية ليس من أهل الاجتهاد، فإن ذلك لا يكون مقبولاً في أوساط العلماء؛ لما اشتهر بأنه من أئمة المجتهدين.

بين يدي الإمام المهدي

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير