5 - على هذا فإن هذه الرسالة تُعدُّ تمهيدًا لوحدة صف المسلمين قبل ظهور المهدي، فلا يكون هناك بين المسلمين تباعد مبني على اختلافهم في الأمور العقدية.
6 - من المعلوم البدهي أن المهدي سيكون على الحق؛ لأن الله تعالى سيمكنه في الأرض، ولن يمكنه -جل وعلا- وهو على الباطل، وإن من أهم الأمور التي تساعد على ظهور الحق ألا يحكم هو ولا أصحابه على المخالفين بالضلال أو الابتداع، فضلاً عن الحكم عليهم بالشرك أو الكفر، كما أن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا في بعض أمور الدين، ولم يحكم أحد منهم على الآخرين ببدعة ولا ضلالة، ولم يحصل بينهم براء ولا مقاطعة.
هذا؛ وقد جاء في أحاديث المهدي أن الله تعالى يصلحه في ليلة، كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المهدي منَّا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة"، أخرجه الإمام أحمد وغيره، وصححه الشيخ أحمد شاكر والشيخ الألباني، رحمهما الله تعالى ().
والذي يظهر لي أن المهدي لم يكن فاسدًا في أول عمره ولا منحرفًا، لا من ناحية الشبهات ولا من ناحية الشهوات؛ لأنه يبعد أن يكون الرجل المختار من الله تعالى لإصلاح الأمة الإسلامية وقيادتها في آخر الزمان قد نشأ على تلك الحال، فالذي يظهر لي -والله أعلم- أنه رجل صالح منذ صغره، ولكنه نشأ في المنهج العقدي على ما تعلَّمه من علماء بلده، فأصبح من إحدى الطائفتين السابقتين، وبالتالي فإنه سيحكم على مخالفيه بالبدعة والضلال والشذوذ والانحراف، وفي الوقت المناسب لظهوره يهديه الله إلى منهج الاعتدال في الحكم على المخالفين، فيكون ولاؤه للمسلمين المتقين جميعًا، ويكون المتقون جميعًا من أنصاره، وهذا هو إصلاح الله تعالى إياه في ليلة، كما جاء في الحديث المذكور.
وعلى هذا؛ فإنه ليس من صفات المهدي قبل ظهوره أنه منحرف عن الاستقامة، بل إنه يكون متصفًا بالتشدد في الحكم على المخالفين، وكون المسلم يحكم على إخوانه المسلمين بالابتداع والضلال والشذوذ والانحراف وهم ليسوا كذلك .. ظلمٌ لهم، والظلم فساد وإفساد في الأرض.
الخاتمة
قد يتساءل الإخوة الذين يعرفونني جيدًا: كيف انتهجت هذا المنهج الوسط في الحكم على المخالفين في العقيدة؛ مع أنني قد نشأت في وسط علمي لا يعتمد هذا المنهج، ويعمم وصف التعطيل على كل من أوَّل شيئًا من الصفات؛ سواء كان قليلاً أو كثيرًا؟!
والحقيقة أنني كنت في مراحل دراستي الأولى -بما في ذلك المرحلة الجامعية- على هذا المنهج، ثم إنني وجدت علماء كبارًا من فضلاء الأمة ساروا على التأويل في بعض آيات الصفات؛ كالنووي وابن حجر العسقلاني وابن الجوزي وابن عقيل والعز بن عبد السلام، فرأيت أن وصف هؤلاء وأمثالهم بالضلال والتعطيل غير سائغ شرعًا، كما أن وصف الأئمة الذين أجْرَوا جميع نصوص الصفات على ظاهرها -كابن قدامة وابن تيمية وابن القيم- بالضلال والتشبيه والتجسيم؛ غير سائغ شرعًا.
ثم إنني؛ بحكم تخصصي في التفسير والحديث، قد اطلعت في أثناء تحضير رسالَتيْ الماجستير والدكتوراه على كتب التفسير المطبوعة التي توافرت لدي، ومما لفت نظري أن جميع المفسرين -حسب اطلاعي- أوَّلوا بعض آيات الصفات، إنْ قليلاً وإن كثيرًا، حتى الذين اشتهر عنهم أنهم من أئمة علماء السنة؛ مثل ابن جرير الطبري وابن كثير والشوكاني، ما عدا مفسرَين معاصرين؛ هما فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتابه "تيسير الكريم الرحمن"، وفضيلة الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي في كتابه "أضواء البيان"، وقد أكَّد لي هذا الحكم ما توصل إليه الشيخ محمد بن عبد الرحمن المغراوي في استقصائه الذي قام به في كتابه: "المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات"؛ حيث أثبت أن جميع المفسرين أتوا بشيء من التأويل في آيات الصفات، وتعقَّبهم في ذلك، ما عدا الشيخين المذكورين.
وحينما درَّست مادة العقيدة في المعهد العالي لإعداد الدعاة، قمت بقراءة "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية وبعض كتبه الأخرى، فأذهلني ما قرأت من كثرة النصوص التي ظهر فيها هذا الإمام بالسماحة والرحمة والعدل وسعة الأفق، وذلك في حكمه على المخالفين في أمور العقيدة من العلماء المجتهدين، حيث اقتصر حكمه عليهم بالخطأ، ولم يضللهم ولم يبدعهم.
ثم توج هذه الرؤى الحميدة ما قمت به من قراءة كتاب "سير أعلام النبلاء" للحافظ الذهبي، حيث يوافق شيخ الإسلام ابن تيمية في السماحة والعدل في الحكم، فأصبحَتْ لديَّ قناعة تامة بهذا المنهج الوسط الذي سطرت من أجله هذه الرسالة.
وكان لزامًا عليَّ أن أنشر ما هداني الله جل وعلا إليه من هذا العلم؛ ليقيني بالوعيد الشديد على كتمان العلم،
كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "ما من رجل يحفظ علمًا فيكتمه؛ إلا أتي به يوم القيامة ملجمًا بلجام من النار"،
أخرجه الحافظان ابن ماجه، والترمذي وحسنه، من حديث أبي هريرة ().
¥