ففي عهد الصحابة ن لم تكن تجزئة العلم إلى العلوم المعروفة الآن، وهي التفسير والحديث والعقيدة والفقة، وإنما كانوا يعلِّمون الناس الكتاب والسنة كما تعلموهما من رسول الله ج، وهما مشتملان على هذه العلوم وغيرها.
وإن الذي يدرس تاريخ الصحابة ن وتراجم علمائهم بالذات الذين جلسوا لتعليم الناس كأبي هريرة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وعبدالله بن عمرو ن .. إن الذي يدرس الحياة العلمية لعلماء الصحابة عموماً يتبين له ارتباط العلم كله بالكتاب والسنة، وأنهم كانوا يعتمدون في تعليمهم على بيان نصوص الكتاب والسنة ثم يفرعون عنها المسائل، ولا يتوسعون في بيان المسائل التي لا نص فيها إلا أن تلجئهم حاجة الفتوى إلى الاجتهاد في القضايا الواقعة في المجتمع.
وبعد انقضاء عصر الصحابة ن بدأت اهتمامات بعض العلماء تتركز في جانب أو جوانب من العلم. وكان من أسباب ظهور التخصصات العلمية بشكل بارز في عهد التابعين ومن بعدهم انتشار السنة النبوية وكثرة مرويات الصحابة منها، فأصبح من لوازم التفوق العلمي حصر أكبر الاهتمام من قِبل العالم الديني بجانب من جوانب العلم والاهتمام به من أجل تلبية حاجة الناس في الإجابة على استفتائهم وحل مشكلاتهم، وكان ذلك من أهم الأسباب الدافعة إلى اهتمام العلماء بدراسة الأحكام التكليفية فيما يتعلق بالشعائر التعبدية والمعاملات، لحاجة المسلمين إلى بيان هذه الأحكام ليعبدوا الله على بصيرة، ويتعاملوا مع الناس على هدى، وقد أطلق العلماء على هذا الجانب (علم الفقه) يعني فقه الكتاب والسنة.
ومما ساعد على ظهور التخصصات العلمية في حياة التابعين ما كان من تميز بعض علماء الصحابة الكبار بنوع من أنواع العلم.
فقد تميز عبدالله بن عباس مثلاً بتفسير القرآن فاصطبغت مدرسته بهذه الصبغة حيث نبغ عدد من تلامذته في التفسير.
وتميز عبدالله بن مسعود مثلاً بمعرفة الأحكام واستنباطها من الأدلة الشرعية فاصطبغت مدرسته بهذه الصبغة ونبغ من تلامذته علماء في الفقه.
وتميز أبو هريرة مثلاً برواية الحديث النبوي فتخرج به تلامذة كثيرون في علم الحديث.
وليس معنى هذا أن هؤلاء الصحابة وأمثالهم قد تخصصوا بهذه العلوم بل كانوا علماء بالدين كله، ولذلك تخرج بعبدالله بن عباس مثلاً فقهاء ومحدثون، وتخرج بعبدالله بن مسعود مفسرون ومحدثون، وتخرج بأبي هريرة فقهاء ومفسرون، وكذلك غيرهم من علماء الصحابة، ولكن مع هذا ظهر لعدد منهم تميز في بعض العلوم فاشتهر بها.
وفي أواخر عصر الصحابة ن ظهرت بعض البدع في أمور الإيمان، كبدعة إنكار قدر الله تعالى، والحكم على فاعل الكبيرة بالخلود في النار والخروج من الإسلام، فتصدى لهذه البدع علماء الصحابة وعلماء التابعين ومَن بعدهم من العلماء، وكثر الجدل حول هذه المباحث، وطال الكلام فيها خاصة ما يتعلق بأسماء الله وصفاته، حتى أطلق العلماء على هذه المباحث "علم الكلام".
ولقد اهتم النبي صلى الله عليه و سلم ببيان العقائد والأحكام مقرونة بالمواعظ والزواجر، وسار على منهجه الصحابة ن وأكثر علماء القرون المفضلة، حيث كانوا يقرنون فتاويهم بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه و سلم المشتمل على الوعظ والتذكير والتبشير والإنذار، فكان ذلك دافعاً للمسلمين إلى الالتزام الصحيح بأحكام الدين، لما يشتمل عليه هذا المنهج القويم من تنمية الورع والتقوى في النفوس.
ولقد تعرضت علوم الدين بعد ذلك للجفاف حينما استُخلِصت من الكتاب والسنة وطرأ عليها الاختصار، فَجُرِّد بعضها من الأدلة، واختلط في بعضها ما ليس منها.
ومن ذلك مباحث العقيدة حيث تعرضت للمباحث العقلية وقلَّ فيها الاستشهاد بالكتاب والسنة في بعض الكتب فلم يكن لها تأثير في تنمية الورع وتقوية الإيمان.
كما تعرضت لموارد لا تَمُتُّ إلى الإسلام بصلة، وذلك من آثار اختلاط المسلمين بغيرهم بعد الفتح الإسلامي والاتصال الفكري مع الأمم الأخرى حيث انتقلت بعض علومهم إلى المسلمين فأحدثت انحرافات في بعض مفاهيم العقيدة.
¥