وفي القضايا العملية تم تجريد الفقه أيضاً من الكتاب والسنة في كثير من المسائل، وكثرت المختصرات التي تُبَيَّن فيها الأحكام على شكل مسائل مجردة من الأدلة، وكان غرض الفقهاء من ذلك تقريب الفقه لطلاب العلم، ولكن نتج عن ذلك ضعف في الالتزام بالدين لأن قول الفقيه: هذا حلال، وهذا حرام، وهذا واجب، وهذا مكروه، وهذا مستحب، لا يصل إلى مستوى عرض نصوص الكتاب والسنة في تنمية الوازع الديني وتقوية الإيمان، فحصل بسبب هذا التجريد نوع من قساوة القلوب وقلة الورع.
كما أن بعض العلماء الذين استدلوا بآيات الأحكام يذكرون صدر الآية المشتمل على بيان الحكم ويتركون آخرها الذي يحتوي على التبشير والإنذار، والوعد والوعيد، وذكر صفات الله تعالى، مما يدل على إغفال الناحية التربوية لدى هؤلاء العلماء وغلبة الناحية الفقهية على أذهانهم، وقد كان الصحابة ن وتلاميذهم يُربُّون الناس على الورع والتقوى قبل أن يعلموهم الأحكام، فلما ضعفت نظرة بعض العلماء إلى هذه المعاني السامية نتج عن ذلك انخفاض في مستوى الاستقامة والوازع الديني.
ومن سلبيات هذا المنهج فهم الإسلام من خلال اجتهادات العلماء لا من خلال النصوص الشرعية، كما أن من سلبياته ضعف الاجتهاد وغلبة التقليد بسبب البعد عن فهم النصوص.
لقد تضاءل خطاب الوجدان والضمير ونما خطاب الفكر، وأصبح هناك فصام خطير بين الناحية العلمية والناحية التربوية، حيث عمرت دروس بعض العلماء بالمسائل العلمية الفكرية وخلت أو كادت تخلو من خطاب الوجدان وترقيق القلوب، حيث قام بهذا الجانب أنصاف المتعلمين الذين كان يطلق عليهم القُصَّاص، ولكن تغطية هؤلاء لهذا الجانب لا تعدّ شيئاً يذكر أمام تغطية أولئك العلماء للجانب العلمي الفكري، لأن الناس ينظرون إلى الوعاظ من غير العلماء المشهورين نظرةً أقل.
ومن العلماء الذين لاحظوا هذا الخلل في الدروس العلمية
أبو شريح المعافري، فقد روى محمد بن عبادة المعافري قال: كنا
عند أبي شريح – رحمه الله – فكثرت المسائل فقال: قد دَرِنَتْ قلوبكم فقوموا إلى خالد بن حميد المهري، استقلُّوا قلوبكم () وتعلموا هذه الرغائب والرقائق، فإنها تجدد العبادة، وتورث الزهادة، وتجر الصداقة، وأقلوا المسائل فإنها في غير ما نزل تقسي القلب وتورث العداوة ().فهذا توجيه سديد من هذا العالم الجليل، وكلمات مضيئة تدل على اهتمامه البالغ بالمجال التربوي، وحرصه على التوازن بينه وبين المجال العلمي، فقد شعر هذا العالم بأن التوجيه العلمي قد طغى على ناحية السلوك والالتزام لدى تلامذته، فوجههم إلى مجالس الواعظ خالد بن حميد المهري ليسمعوا أحاديث الرقائق والترغيب والترهيب، فيتقوى إيمانهم ويرتفع لديهم مستوى الوازع الديني.
وما يزال هذا الفصام قائماً حيث أصبح الناس يفرقون بين العلماء والدعاة لتميز العلماء بالخطاب الفكري وتميز الدعاة بالخطاب الوجداني، إلا في أفراد قلائل من العلماء جمعوا بين الناحيتين العلمية والتربوية، وهذا وضع غير سليم، لأن الدعوة إلى الله تعالى من أخص خصائص العلماء.
وحينما كان الانسجام الكامل بين التعليم والدعوة في حياة الصحابة ن وفي حياة من اقتدى بهم من العلماء الربانيين كان العلماء هم قادة الأمة الإسلامية وقدوتها، والعلماء الذين قضوا في العلم تعلماً وتعليماً سنوات كثيرة يتصفون غالباً بعمق التفكير وبُعد النظر والحكمة في دراسة القضايا والحكم عليها في واقعها وعواقبها.
ولكن حينما تخلى بعض العلماء عن الدعوة قام بذلك من هم أقل منهم علماً وتجربة وأضعف منهم وزناً وقيمة لدى كبراء الأمة، فأصبحت القيادة الدينية في كثير من أوساط المجتمعات لهؤلاء الدعاة، وظلت القيادة الدينية للعلماء القائمين بالتعليم والإفتاء في أوساط طلاب العلم الديني، فصار الفصام العريض بين التعليم والتربية، وأصبحت الجهود الإصلاحية ضعيفة سواء تقدم بها قادة الدعوة أو البارزون من العلماء، لأن شهرة الدعاة وإن كانت كبيرة فإنها لا تتجاوز أوساط الناس غالباً، بينما تقتصر شهرة العلماء على بعض طلاب العلم وبعض الكبراء في المجتمع، وبهذا ضاع كثير من أصوات المتقين من مُحبِّي الإصلاح بين قادة الدعوة وقادة العلماء، فضعفت كلمتهم وتبددت جهودهم وأصبحوا بتفرقهم مطمعاً لأعدائهم فاغتنموا فرصة تباعدهم وحاولوا توسيع الفجوة بينهم،
¥