أما ما جاء في آخر الحديث من قوله لا تبشرهم فيتكلوا فالظاهر أنه محمول على ما عدا ذلك وهي النوافل، فيكون المعنى: لا تبشر الناس الذين أكملوا توحيدهم باجتناب الشرك بجميع أنواعه واجتناب المعاصي التي هي في حقيقتها مترتبة على الشرك .. لا تبشرهم بالنجاة من النار فيتكلوا على ذلك ويتركوا أداء النوافل فإنها تُكسبُ رضوان الله عز وجل ومحبته، وترفع من درجات فاعليها في الجنة، وتجبر ما عساه أن يكون نَقَصَ من أداء الواجبات، وهي المجال الرحب لتنافس أولياء الله تعالى السابقين بالخيرات، الذين تجاوزوا مرحلة المقتصدين المذكورة في قوله الله سبحانه في سورة [فاطر:32].
وعلى هذا المعنى يمكن أن تحمل جميع أحاديث الوعد التي جاءت على نحو ما جاء في حديث معاذ رضي اله عنه.
فأما قول الله تعالى [النساء:48] فإن المراد بالشرك هنا الشرك الأكبر الذي لا يبقى معه إسلام، وما دون ذلك من الذنوب إذا لم يتب فاعلها فإنه تحت مشيئة الله وإرادته إن شاء عفا عن فاعلها وإن شاء عذبه على قدر ذنوبه، سواء كانت هذه الذنوب شركا في الظاهر والباطن كالعمل الذي يخالطه الرياء والحلف بغير الله تعالى، أو كانت شركا في الباطن كسائر المعاصي التي لا تعتبر في ظاهرها من الشرك، ولكن ينطبق عليها أنها في الباطن شرك بالنظر إلى الانحراف القلبي نحو غير الله تعالى، كاتباع الهوى والاستجابة لوساوس الشيطان.
ومما يدل على أن المعاصي تسمى كبائر أو صغائر من وجه، وتعدّ شركاً من وجه آخر ما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه و سلم تعس عبدالدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض ().
فإن أكل الربا مثلا من الكبائر وهو داخل في معنى هذا الحديث إن كان آكله يعلم تحريمه لأنه يصدق عليه أنه من عبيد الدنيا، فهو بالنظر إلى خضوعه في سلوكه للدنيا يعدّ عبداً لها، وإن كان هذا لا يصل إلى حد الشرك الأكبر.
وواضح من النصوص الشرعية أن المسلم لا تُكتب عليه نية القلب حتى يقول أو يعمل، كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الله عز وجل: إذا همَّ عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة ().
أما إذا طرد وساوس الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء فإن ذلك يُكتب له عملاً صالحاً، لكن لو ارتكب المخالفة فإنه يكون قد وقع في المعصية الظاهرة، إلى جانب الوقوع في الشرك الخفي بميل قلبه عن الله تعالى إلى هوى النفس.
وإضافة إلى الارتباط الوثيق بين العمل الصالح والإيمان القلبي، فإن الإيمان هو الذي يدفع المسلم إلى العمل، كما أن العمل ينمي هذا الإيمان شيئاً فشيئاً حتى يقوى.
وعلى هذا فإن الدعوة إلى الاستقامة على جميع تكاليف الإسلام تعدّ دعوة إلى ترسيخ العقيدة، وجميعُ الدعاة إلى الله تعالى يشاركون في تثبيت العقيدة الإسلامية وإن لم يصرحوا بالدعوة إلى ذلك.
ولكن خدمة العقيدة في هذا المجال لا تتم إلا بتذكر أن تكاليف الدين التي يدعو إليها الداعية مرتكزة أساساً على العقيدة، فيكون قد جمع بين الدعوة إلى الاستقامة على أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه وبين محاولة تقوية إيمان المسلمين وربطهم بعقيدتهم.
وبهذا الشعور بالتلازم بين العمل الصالح والعقيدة يطْمئن المهتمون بأمور العقيدة، ليقينهم بأن روافد تثبيت الإيمان ليست مقتصرة على الأبواب التي جمعها العلماء تحت إطار العقيدة، بل هي شاملة لكل تكاليف الإسلام.
وهذا لا يعني التهوين من شأن أمور الاعتقاد التي اصطلح العلماء على تسميتها بذلك، وإنما يعني أن كل من دعا إلى أي حكم إسلامي فإن له نصيباً من الدعوة إلى العقيدة، وهذا إضافة إلى أنه يدفع الدعاة إلى الحماسة في دعوتهم فإنه يدفع المهتمين بأمور العقيدة إلى توسيع دائرة دعوتهم لتشمل الدين كله.
¥