واستأنفت المكتبة نموها البطيء جدًّا متغذية بقدر ضئيل تتبلَّغ به من قُوتي؛ لأني كنت يومئذ لا أملك فضل زاد أطعمها به. ولما تيسرت الأمور بعد العسر، وأقبلت الدنيا قليلاً بعد إدبار، بدأت مكتبتي تنمو نموًّا طبيعيًّا، وتزدهر مع الأيام كما تزدهر صبيَّة محاطة برعاية أبويها، وما زالت تترعرع ويشتد عودها حتى شبَّت عن الطوق، وأصبحت يافعة صبوحة الوجه، بهية الطلعة، فارعة القوام، تملأ عيني ووجداني.
وأنا هنا لا أبغي أن أُثقل عليكم بسرد قصة حياة مكتبتي، وإنما غرضي أن أبين أن شأني معها كشأن فلاح وضع في الأرض شتلة صغيرة سقاها بعرقه، وأطعمها من عصارة أعصابه، وسهر على حمايتها من لسعة البرد، ولفحة الحر، وصبر عليها كما يصبر الأب على تنشئة ابنه، إلى أن استغلظت واستوت على ساقها، ثم ارتفعت دوحة ظليلة ذات بهجة تسر الناظرين.
وكما يغار الفلاح على شجرته التي رباها على عينه، وغذاها من دمه - أغار أنا على مكتبتي التي كوَّنتها من حبات عرقي، وغذّيتها سنين طويلة من قوتي وقوتي عيالي.
وكما يتألم الفلاح لخدش يجرح غشاء شجرته، أتألم أنا لخدش يجرح كتابي، وأشعر كأن الجرح أصاب جسمي. بل أنا في العادة أهمل العناية بجرح يمزق طبقة جلدي، ولكن لا تطاوعني نفسي أن أهمل تمزقًا يقطع غلافًا أو صفحة من كتبي، فأسارع إلى علاج التمزق بكل رفق، وأحاول أن أرأب صدع الكتاب بكل دقة، وأجتهد في ألا أخلّف للكتاب المصاب عاهة مستديمة تشوهه، وألا ألصق به جبيرة تطمس بعض حروفه، حتى إذا ما نجحت في مهمتي غمرني سرور كالذي يغمر طبيبًا جراحًا أجرى عملية ناجحة أعادت العافية إلى مريضه.
إلى هذه الدرجة بلغ حبي لكتبي ومكتبتي، بل قد تجاوز الحب هذه الدرجة فجعل لمكتبتي تأثيرًا عجيبًا في نفسي قد لا تصدقونه، وإذا صدقتموه فلا بد أن يكون تصديقًا مشوبًا بالاستغراب والدهشة، وأنتم غير ملومين في ذلك، فمعذور من ذاق، ومعذور من لم يذق.
من هذا التأثير العجيب أني أخلو إلى نفسي في مكتبتي، فأستمتع بهذه الخلوة كما يستمتع العابد المنعزل في صومعته، وأجد فيها برد الراحة كما يجده في الواحة الظليلة الظاعن الْمُجهَد من سفره، وأناجي فيها روحي بصمت عميق معبّر يعجز عن بلاغته وروعته أفصح الكلام المنطوق شعرًا ونثرًا.
وفي مكتبتي تتجمع أفكاري المشتتة، وتحضر خواطري الغائبة، وتتوارد على ذهني الصور والألوان، وتتولد عندي المعاني بلا مخاض عسير، ويسْلُس أسلوبي بلا تصنع ولا تكلف، ويسيل قلمي بلا تعثر ولا توقف، كأنها مصدر إلهام، أو منبع إيحاء، أو سر يفتح على العبد فتوح العارفين.
ومن هذا التأثير أنه قد ينتابني قلق، وتعروني كآبة، كحال كل البشر في هذه الحياة الصعبة، وقد يركبني همٌّ، ويُمِضُّني غمٌّ، كشأن كل إنسان مبتلى بشرور الناس، فأهرب إلى مكتبتي، أستروح نسمة من الطمأنينة، وأستفتح كُوَّة للانشراح والسرور، وألتمس مخرجًا مما أختنق فيه من الضيق، فما هي إلا لحظات حتى أستشعر أُنسًا يبدد القلق كما تبدد سياط الرياح السحب القاتمة، ويُسرَّى عني كأن الكآبة قد ضايقتها المكتبة فلم يطب لها في نفسي مقام، وتَنْزل علي سكينة تُفرِّج الهم وتكشف الغم كأن يدًا رحيمة امتدت فأزاحت ثقلاً كان ينوء به كاهلي، وأحس كأن الكتب المباركة قد أهمها أمري فسارعت إلي من أرففها تربّت على كتفي تواسيني، وتسكب علي من حنانها تلاطفني، وتقص علي من حكاياتها تسليني، وتنثر بين يدي حكمتها تعظني، وتذكرني بالله الذي بذكره تطمئن القلوب.
وقد أتصور - لسبب ما - أن الوقت يتثاقل في برود يُغضب الحليم، ويتباطأ في ملل يحطم الأعصاب، حتى ليُخيَّل إليّ أنه يسير على غير عادته سيرًا وئيدًا كما تسير عربة محمَّلة بالأثقال يجرها حمار هرِم.
وقد أتصور - لسبب ما أيضًا - أن عقارب الساعة توقفت عن الدوران كأنها أصيبت بكساح أفقدها الحركة، أو كأن الإجهاد المتواصل قد أنهك قواها، وفكّك مفاصلها. وأفرُّ من هذه الحالة التي لا تأتي من حسن الحظ إلا نادرًا - إلى مكتبتي، فإذا بالوقت المتباطئ يسرع كأن محرِّكًا جديدًا رُكِّب فيه، وإذا بالعربة القديمة المحملة بالأثقال تنطلق كالسهم كأنما يقودها بُراق، وإذا بعقارب الساعة المتوقفة تجري كأنها تريد أن تسابق الزمن.
¥