وأعترف بأن هذا الحب الجارف لمكتبتي دفعني إلى أن أنحاز إليها وأخصها بامتياز وفضل لا أعطيهما لغيرها من مرافق البيت، فهي حرة في أن تتحرك كما تشاء، وتنتقل إلى حيث تريد. لها إن ضاقت بكتبها أن تتوسع في أي مكان من البيت بلا استئناس ولا استئذان، ولها أن تحتل ببعض كتبها ركنًا من الأركان بلا سابق إنذار، ولا إشعار بالإخلاء، ولها أن تشارك أي غرفة مساحتها، بدون أن يكون للغرفة حق الاعتراض أو الاحتجاج.
وفي المقابل أحجب هذه الحرية عن غير المكتبة، فأمنع أي غرفة أن تتوسع بمحتوياتها في المكتبة، وأطرد بلا رحمة أي شيء غريب يقتحم رحاب المكتبة، مهما كان صغيرًا أو قليلاً. وفي حالات الاضطرار القصوى أقبل على مضَض هذا التجاوز بشرط أن يكون مؤقتًا ينتهي بانتهاء المناسبة التي دعت إليه.
هكذا أنحاز إلى مكتبتي بوعيي وإرادتي، على شدة عشقي للحرية، وتمسكي بحق المساواة في المعاملة، ولا يحرجني في هذا الانحياز أن أكون مثل أب أسرف في تدليل ابنه، فسمح له أن يضايق الآخرين ويشاركهم، ولم يسمح للآخرين أن يضايقوه ويشاركوه.
ومن تأثير مكتبتي في نفسي أن الكتاب الذي ينتسب إليها، ويدخل فردًا في عائلتها، يتحول في شعوري من كائن مصنوع من ورق إلى كائن حي تربطني به صداقة متينة، وتشدني إليه عاطفة حميمة، يستوي في ذلك أقدم كتاب وأحدث كتاب. لذلك لا أطيق فقد كتاب من مكتبتي مثلما لا أطيق فقد صديق عزيز. وأذكر أني فقدت كتبًا منذ أكثر من ربع قرن، فلم يخفف طول الزمن من لوعة فراقها في قلبي، ولم ينسني بُعد العهد على فقدها حزني، ولا يزال جرحها يثير فيَّ المواجع كلما طَفَتْ ذكراها الأليمة على سطح ذاكرتي، في حين فقدت أموالاً وأشياء ثمينة لم يترك فقدها في نفسي حسرة، ولا أكاد أتذكرها الآن، وإذا تذكرتها عبرت خاطري عبور الطيف الخاطف كأن لم تكن.
وأسوأ فقد لكتاب من كتبي يعتصر قلبي ألَمًا، وتبقى ذكراه جمرة متَّقدة تكوي كبدي - أن يكون المفقود جزءًا من كتاب ذي أجزاء، إذ يصبح الكتاب المخروم كشخص بُترت ساقه، أو قُطعت يده، أو شَلَّ عضو من أعضائه، أو كعمارة أصاب طابقًا من طوابقها قذيفة من مدفع ميدان، فأحدثت فيها ثُغرة واسعة أوهنت من قوة بنائها، وقلَّلت من درجة الانتفاع بها، أو كأسرة كانت ملتئمة الشمل، متراصة الصف، فجاءت يد آثمة اختطفت أحد أفرادها، فتمزق بذلك شملها، وتضعضع صفُّها.
ومن أجل المحافظة على كتبي من الخرم والضياع لا أعير في الغالب كتابًا؛ لأن إعارة الكتب من أوسع أبواب فقدها، وفي مقدمة أسباب ضياعها، حتى بالغ بعضهم فعدَّها عارًا ينبغي أن يبرأ من وصمته، فقال:
ألا يا مستعير الكُتْب دعني .. فإن إعارتي للكُتْب عارُ
وإني لأعلم أناسًا من ذوي الوجاهة المرموقة في المجتمع، ومن أصحاب الأسماء البراقة الرنَّانة، كوَّنوا معظم ما في مكتباتهم بالسطو على كتب الآخرين تحت ستار الاستعارة، وجمعوا ما عندهم من المخطوطات والدوريات والمراجع بالوجه الصفيق الذي لا يَنِزُّ بقطرة خجل، ويحلف الواحد منهم بأغلظ الأيمان، ويأخذ على نفسه أوثق العهود، على ألا يبقى لديه المستعار من كتاب وغيره أكثر من شهر، ثم يمتد الشهر إلى أشهر، وتمتد الأشهر إلى شهور، وتلد الشهور سنين، ثم لا تعرف السنون لنفسها نهاية.
ويحاول صاحب الكتاب أو المخطوطة أو غيرها أن يسترجع حقه الذي طالت غيبته، ويُلِحُّ في مطالبته حتى يُبَحَّ صوته من كثرة الإلحاح، ويتردد على السارق المغطي وجهه ببرقع الشهرة حتى تتورم قدماه، ولا يملك في الأخير إلا أن يستسلم وييأس من رجعة كتابه أو غيره إليه كما ييأس من رجعة موتى القبور إلى الدنيا.
وقد تعير شخصًا كتابًا مخدوعًا بمظهره الذي يدل على أنه ممن يُحتَجر عنده الأيتام، ويؤتمن على خزائن الأرض، ثم يخبرك بعد مدة أن صديقًا زاره فرأى الكتاب وأُعجب به، وطلب أن يستعيره منه، ولما كان صاحبنا يستحيي أن يرد طلبًا لصديق اضطُر إلى أن يوافق ويعير الكتاب المستعار.
وتنفجر في هذا اللئيم البارد الذي خدعك بمظهره: كيف تسمح لنفسك أن تتصرف في شيء لا تملكه، وتعير كتابًا أنت مستعيره؟! ولا يجيب اللُّكَع بغير ضحكة صفراء يتجمع فيها من صقيع الصفاقة ما لو وُزع على آبار مدينة لجمَّدها جميعًا!
¥