وقد يأتيك شخص تنطبع على جبهته سمة مستديرة من كثرة السجود، ويستدرجك بلسانه الذي يغزل الحرير لفرط لينه، ويطلب منك في لهجة خجل وانكسار كتابًا، فلا يسعك إلا أن تستجيب لطلبه مرحِّبًا، وتعيره الكتاب راضيًا مطمئنًّا، وترجو من وراء ذلك أن ينالك قبس من اللُّمعة المطبوعة على جبهته، وتتعرض لنفحة من نفحات بركته، وتنتفع بدعوة غيب صالحة يدعوها لك.
وبعد مدة يأتيك هذا الشخص متباكيًا متظاهرًا بحزن عميق كما تظاهر إخوة يوسف بالحزن عندما جاؤوا أباهم عشاءً يبكون، ويخبرك في مرارة لا يخفى على حسك الصادق أنها ناضحة بالكذب، وفي أسف ينطق تصنُّعه المفضوح بأنه طافح بالنفاق - بأنه كان في مكان ما ومعه كتابي الذي استعاره مني، ثم غاد المكان ونسي الكتاب، وما أنساه إلا الشيطان أن يذكره، وعندما انتبه إلى إلى فقد الكتاب فزع وانزعج، واكترب واضطرب، وولَّى مهرولاً إلى ذلك المكان، لاهث الأنفاس، مكلوم الفؤاد، فلم يجد للكتاب أثرًا كأن الأرض ابتلعته.
وحتى يُبرِّئ صاحبنا ذمته، ويُخلّص ضميره من وخز التأنيب، أبلغ على الفور الشرطة بالحادث، وزوَّدهم باسم المفقود وحجمه ولونه وأوصافه المميزة، لعل دورية من دوريات الأمن تعثر عليه، وتزف البشرى إلى ذويه. كما نشر صاحبنا إعلانًا في المكان محل الضياع يلتمس فيه من كل من يجد الكتاب أن يعيده إلى صاحبه في العنوان كذا، وله جزيل الشكر، وفوق الشكر مكافأة سنيَّة.
ونسي صاحبنا أن يذكر أنه قصد برنامج " بريد المغتربين " في الإذاعة؛ ليناشد من خلاله الغائب أن يعود إلى أهله، وليَتَوَجَّه بالرجاء إلى كل من يعرف عنه شيئًا أن يبلغ أقرب مركز للشرطة، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً!
قل لي بربك: ماذ يستطيع صاحب الكتاب أن يفعل إزاء هذا الكذّاب الأشِر، والأفاك الأثيم، إلا أن " يشرب " مكرَهًا مشهده التمثيلي السخيف، ويبتلع الحسرة على كتابه الذي ذهب ولن يعود؟! هل على صاحب الكتاب من لوم بعد ذلك إذا كوى يده بالنار حتى لا تمتد مرة أخرى إلى كتاب تعيره لمخلوق لا يعرفه، ولو رآه يمشي على الماء، أو يطير في الهواء، أو يعلق في رقبته ألف مسبحة، أو يطبع على جبهته مائة لُمعة؟!
وقد تعير شخصًا كتابًا في حالة جيدة من الصحة والسلامة والنظافة، فإذا صادف أن رده إليك بعد لأْيٍ وعنَت ومماطلة - وجدت الكتاب غير الكتاب: متغير اللون من كثرة ما تراكم عليه من وسخ، أو مخلوع الغلاف، أو ممزق الأوراق، أو مفكك الملازم. وقد تجد الكتاب مشوّهًا بخطوط ورسومات وآثار من عبث الأطفال. وقد تجده مشبعًا بدهن كأن صاحبنا كان يغترف به الزيت، أو ملطخًا ببقايا طعام كأنه استعمله مكان الملعقة في الأكل، أو ملوثًا بشيء يعف قلمي عن ذكره.
هذه " عيّنات " من سيئات الإعارة للكتب، وهي كلها صادقة، وكلها مستخلصة من واقع عشته، أو عاشه غيري، وليس فيها من الزيادة إلا ما يقتضيه التصوير من وصف وتشبيه، وما تستلزمه صنعة التشويق بتطرية الكلام ببعض الْمُلَح والمفارقات.
هناك بطبيعة الحال اسثناءات، فكثيرون ممن تربطني بهم أخوة راسخة، أو صداقة متينة، أعيرهم ما يطلبون من كتبي، وأستعير منهم، وأثق بدينهم وأمانتهم كثقتي بنفسي، ويحافظون على كتابي كما أحافظ عليه.
ومن المهم ن أذكر أن امتناعي عن إعارة من لا أثق به كتبَ مكتبتي - لا يعني أني أضن بمعارفها على من يطلبونها، وأحبس سحائب كرمها عن أن تجود بفيوضات خيرها على المتعطشين للعلم. فأنا أومن أن المكتبة نعمة، والنعمة تستوجب الشكر، ومن شُكْر نعمة المكتبة أن يعم نفعها، وينتشر نورها، ويتوزع برُّها. أومن أن المكتبة ثروة، وفي الثروة حق الزكاة، وزكاة المكتبة أن يُبذَل عطاؤها لسائليه، ويصل خيرها إلى محروميه. وعندي أن الذي يكْنِز علم المكتبة ولا ينفقه في سبيل المحتاجين إليه، كمن يكْنِز الذهب والفضة ولا ينفقهما في سبيل الله، كلاهما بخل بما آتاه الله من فضله، وكلاهما أخل بوظيفة ما جعله الله مستخلفًا فيه، وكلاهما حجّر ما يجب أن يكون دُولة بين الناس جميعًا.
لذلك لا أرد طالب كتاب أملكه، ولا أقفل مكتبتي في وجه من يريد الانتفاع بها. وطريقتي في ذلك أن أحدد له موعدًا يناسبه ويناسبني ليشرّفني زائرًا كريمًا في بيتي، فإذا جاء استقبلته بترحاب، واستضفته بحفاوة، وفتحت له صدري ومكتبتي، وقدمت له ما يريد من كتب ومراجع عندي، وقد أقترح عليه كتبًا تتصل بموضوع بحثه لم يطلبها، وقد أوجهه إن كان محتاجًا إلى توجيه. وبالجملة أضع مكتبتي تحت تصرفه، وأضع نفسي تحت إمرته، وأوفر له - بقدر ما أستطيع - جو الهدوء الذي يساعد على التركيز والاستيعاب والتسجيل، ولا أتضايق مهما شط في طلباته، ولا أتذمر مهما ألح في أسئلته، ولا أحدد له وقتًا يقضيه في ضيافتي إلا أن يحدده هو. وأُشهد الله أني أفعل ذلك عن رضا نفس، وطمأنينة بال، وحماسة صادقة، ورغبة مخلصة في خدمة العلم وأهله، ولو تكررت زيارة الزائر مرات، ولو اقتطع من وقتي ما اقتطع.
وبهذه الطريقة أكون قد حفظت مكتبتي من شر الإعارة وبلائها، وأمّنتها من امتداد أيدي اللصوص إليها، وأرجو بذلك أن أكون قد شكرت نعمتها، وأديت زكاتها، وأوفيت بحقها.
ختاماً، فقد قالوا قديمًا: من أحب شيئًا أكثر من ذكره، وقد أكثرت في هذه الصفحات من ذكر مكتبتي لأني أحبها. وآمل أن أكون قد حببت المكتبة إلى قلوب الناس جميعًا؛ لأنهم إذا أحبوها اقتنوها، وإذا اقتنوها ازدانت بيوتهم بأفضل ما تزدان به البيوت، وجنوا منها ثمرات ومنافع لا يجدونها في غيرها، وكانت بركة تعمهم، وتطرد الشيطان عنهم.
عبد اللطيف الشويرف
منقول للفائدة
وهذا موضوع ذو صلة: [إعلان] للاخوة في الإمارات ... ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=196400)
¥