وحاول الأب بأسلوب لطيف رفيق أن يقنعهم بالتخلي عن هذا المطلب ملمحاً بصورة غيرمباشرة عن عدم رضاه ومعتذراً بأسباب نفسية وتوقعات ظنية علها تثنيهم عن أمرهم هذا ولكن الأخوة وقد غلبهم الهوي ونزغ الشيطان فيهم يصرون علي موقفهم ويحاولون ملحين إقناع أبيهم بمطلبهم وإسقاط حججه وإزالة خوفه وحذره.
ثم انتقلت الآيات من مشهد حوارالأخوة مع أبيهم إلي مشهد البدء بتنفيذ خطتهم الفعلية (فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون).
ويتبادر لذهن السامع للوهلة الأولي فيظن أن يوسف قد ’ترك لمصيره البائس المحروم ... فالأب لم يحزم أمره ويمنع ابنه والإخوة ماضون في أمرهم لايلوون علي شيء ويوسف نفسه مستسلم لقدره ولم ينبس ببنت شفه ولم يأت بأية حركة.
حتي إذا بلغ الشر مداه والفعل السيء منتهاه ... والظلم والظلمة أحلكها والوحشة أوحشها في غيابة الجب ... فلا أنيس ولا جليس ولا قريباً ’يرتجي ولا بعيداً ’ينتظر ولا صوتاً ’يسمع ولا نوراً ’يري ... وفي شدة الكرب يأتي الفرج وفي قمة الإضطرار يغاث الملهوف ... وفي ثبات اليقين يفلح الصابرون ويستجيب الله الودود الرحيم لمن دعاه بقلبه وصمت لسانه فعلمه بحاله يغنيه عن سؤاله
في هذه اللحظة أتته المعية الإلهية والرحمة الرحمانية تغنيه عن كل (الغير) عن الأب والأم والإخوة ... تزيل عنه وحشته ... تنير له كل ظلمة ... ’تذهب عنه كل حزن ... تفرج عنه كل كرب ... تيسرله كل عسر ... تمسح عنه كل دمعة ... تنزع عنه كل أسي وألم ... تأخذ بيده في كل أمر.
وأوحينا إليه: وكفي بوحي الله من نعمة وقربي ومدد ... وكفي بوحي الله صلة وكفي بوحي الله ليوسف من اجتباء واصطفاء وإخلاص.
ثم ينتقل السياق من مشهد إلي مشهد ويترك لذهن السامع الإستنتاج بأن خطتهم قد تكللت بالنجاح وأنهم أنجزوا عملهم بجعل يوسف في الجب علي أكمل وجه وقد رجعوا إلي أبيهم ليختموا الفصل الأخيرمن الخطة وذلك بتقديم ما أعدوه من الأعذارالمزعومة إلي أبيهم (وَجَآءُوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ* قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ* وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُوَن)
واعجباه!! .. لقد تعللوا لأبيهم من قبل أنه بذهاب يوسف معهم سيلعب وهم له الحافظون فإذا هم يقولون الآن: إنه كان هو الحافظ لمتاعهم وهم الذاهبون اللاعبون وقالوا إنه سيرتع ويأكل كيف شاء فإذا هوالمأكول ... وقالوا لئن أكله الذئب وهم عصبة إنهم إذا لخاسرون فإذا عصبتهم هي التي أبعدتهم عن يوسف للربح في السبق وإذا يعقوب ويوسف هما المفترقان الخاسران.
لقد كان ادعاؤهم ضعيفاً واهناً غيرمعقول ولامقبول لعدة أسباب:
• لم يوجد علي القميص من أثر يوسف أوالذئب شيء سوي دم نكرة.
• إن حادثة كبيرة فظيعة كهذه لايكتفي فيها ببينة ثانوية هامشية فأين الجاني وأين المجني عليه .. هل اختفيا من الوجود وبلعتهما الأرض؟
• ألن يستطيعوا إدراك الذئب المعرف فينقذوا أخاهم من براثنه أومابقي منه لدفنه وهل الذئب يأكل الإنسان كاملا فلايبقي له علي عظم أوجلد أوشعر؟
• ألم يكن الذئب هوالذي حذرهم أبوهم منه فأكدوا علي استعدادهم جميعا للوقوف صفاً واحداً لحماية يوسف منه ويكون هو نفسه العلة التي أتوا بها؟
إن يعقوب النبي الحكيم لم يصدق ادعاءهم ولم يقتنع به وعلم أن نفوسهم المريضة قد دعتهم وأغرتهم بأمرسيء آخر .... ولكن يعقوب أيضا لايملك دليلاً بيناً مضاداً يدينهم ويجرمهم ومن ثم يعاقبهم.
ولما لم يكن أمامه ما يمكنه القيام به فقد أسقط في يديه و (قال بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُوَن).
فسلاح المؤمن في مثل هذا هو فصبر جميل .... فما علي الإنسان العاقل أمام النوازل التي لايستطيع لها صرفاً ولا تحويلاً ولا تدبيراً إلا أن يلجأ إلي الصبر
¥