تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مثلما يروّج لمتاع في السوق حسب المواسم ويرغّب فيه، كذلك اسواق الحياة الاجتماعية ومعارض الحضارة البشرية في العالم، فترى متاعاً يرغّب فيه في عصر، فيكون له رواج، فتُوجَّه اليه الانظار، وتجذب نحوه الافكار، فتحوم حوله الرغبات.

فمثلاً: ان المتاع الذي تُلفت اليه الانظار في عصرنا الحاضر وتُرغّب فيه هو الانشغال بالامور السياسية واحداثها، وتأمين الراحة في الحياة الدنيا وحصر الهمّ بها، ونشر الافكار المادية وترويجها. بينما نرى ان السلعة الغالية النفيسة، والبضاعة الرائجة المقبولة في عصر السلف الصالح واكثر ما يرغَّب فيه في سوق زمانهم هو

ارضاء رب السموات والارض والوقوف عند حدوده، واستنباط اوامره ونواهيه من كلامه الجليل، والسعي لنيل وسائل الوصول الى السعادة الخالدة التي فتح ابوابها الى الابد القرآن الكريم ونور النبوة الساطع.

فكانت الاذهان والقلوب والارواح كلها متوجهة - في ذلك العصر - وبكل قواها الى معرفة مرضاة الله سبحانه وادراك مرامي كلامه، حتى باتت وجهة حياتهم واحوالهم المختلفة وروابطهم فيما بينهم وحوادثهم واحاديثهم مقبلة كلها الى مرضاة رب السموات والارضين، لذا ففي مثل هذه الحياة التي تجري بشتى جوانبها وفق مرضاة رب العالمين سبحانه تصبح الحوادث بالنسبة لصاحب الاستعداد والقابليات الفطرية دروساً وعبراً له من حيث لا يشعر، وكأن قلبه وفطرته يتلقيان الدروس والارشاد من كل ما حوله، ويستفيدان من كل حادثة وظرف وطور، وكأن كل شئ يقوم بدور معلم مرشد يعلم فطرته ويلقنها ويرشدها ويهيؤها للاجتهاد،

حتى يكاد زيت ذكائه يضئ ولو لم تمسسه نار الاكتساب.

فاذا ما شرع مثل هذا الشخص المستعد في مثل هذا المجتمع، بالاجتهاد في اوانه، فان استعداده ينال سراً من اسرار (نور على نور) ويصبح في اقرب وقت واسرعه مجتهداً.

بينما في العصر الحاضر: فان تحكم الحضارة الاوروبية، وتسلط الفلسفة المادية وافكارها، وتعقد متطلبات الحياة اليومية .. كلها تؤدي الى

تشتت الافكار وحيرة القلوب وتبعثر الهمم وتفتت الاهتمامات، حتى اضحت الامور المعنوية غريبة عن الاذهان.

لذا، لو وجد الآن مَن هو بذكاء (سفيان بن عيينة) (1) الذي حفِظ القرآن الكريم وجالس العلماء وهو لا يزال في الرابعة من عمره، لاحتاج الى عشرة امثال ما احتاجه ابن عيينة ليبلغ درجة الاجتهاد، اي انه لو كان قد تيسر لسفيان بن عيينة الاجتهاد في عشر سنوات فان الذي في زماننا هذا قد يحصل عليه في مائة سنة، ذلك لان مبدأ تعلم (سفيان) الفطري للاجتهاد يبدأ من سن التمييز ويتهيأ استعداده تدريجاً كاستعداد الكبريت للنار، اما نظيره في الوقت الحاضر فقد غرق فكرُه في مستنقع الفلسفة المادية وسرح عقلُه في احداث السياسة، وحار قلبُه امام متطلبات الحياة المعاشية، وابتعدت استعداداته وقابلياته عن الاجتهاد، فلا جرم قد ابتعد استعداده عن القدرة على الاجتهادات الشرعية بمقدار تفننه في العلوم الارضية الحاضرة، وقصر عن نيل درجة الاجتهاد بمقدار تبحره في العلوم الارضية، لذا لا يمكنه ان يقول لِمَ لا استطيع ان ابلغ درجة سفيان بن عيينة، وانا مثله في الذكاء؟ نعم، لا يحق له هذا القول، كما انه لن يلحق به ولن يبلغ شأوه ابداً.

رابعها:

ان ميل الجسم الى التوسع لاجل النمو إن كان داخلياً فهو دليل التكامل. بينما ان كان من الخارج فهو سبب تمزق الغلاف والجلد، اي انه سبب الهدم والتخريب لا النمو والتوسع.

وهكذا، فان وجود ارادة الاجتهاد والرغبة في التوسع في الدين عند الذين يدورون في فلك الاسلام ويأتون اليه من باب التقوى والورع الكاملَين وعن طريق الامتثال بالضروريات الدينية فهو دليل الكمال والتكامل. وخير شاهد عليه السلف الصالح.

اما التطلع الى الاجتهاد والرغبة في التوسع في الدين

إن كان ناشئاً لدى الذين تركوا الضروريات الدينية واستحبوا الحياة الدنيا، وتلوثوا بالفلسفة المادية، فهو

وسيلة الى تخريب الوجود الاسلامي وحل ربقة الاسلام من الاعناق.

خامسها:

هناك ثلاث نقاط تدعو الى التأمل والنظر، تجعل اجتهادات هذا العصر ارضية وتسلب منها روحها السماوي، بينما الشريعة سماوية والاجتهادات بدورها سماوية، لاظهارها خفايا احكامها. والنقاط هي الاتي:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير