تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولكن بمجىء خاتم النبيين وهو نبي آخر الزمان e ، تكاملت البشرية وكأنها ترقت من مرحلة الدراسة الابتدائية فالثانوية الى مرحلة الدراسة العالية واصبحت اهلاً لان تتلقى درساً واحداً، وتنصت الى معلم واحد، وتعمل بشريعة واحدة. فرغم كثرة الاختلافات لم تعد هناك حاجة الى شرائع عدة ولا ضرورة الى معلمين عديدين.

ولكن لعجز البشرية من ان تصل جميعاً الى مستوى واحد، وعدم تمكنها من السير على نمط واحد في حياتها الاجتماعية فقد تعددت المذاهب الفقهية في الفروع.

فلو تمكنت البشرية - باكثريتها المطلقة - ان تحيا حياة اجتماعية واحدة، واصبحت في مستوى واحد، فحينئذ يمكن أن تتوحد المذاهب.

ولكن مثلما لا تسمح احوال العالم، وطبائع الناس لبلوغ تلك الحالة، فان المذاهب كذلك لا تكون واحدة.

فان قلت: ان الحق واحد، فكيف يمكن ان تكون الاحكام المختلفة للمذاهب الاربعة والاثني عشر حقاً؟

الجواب: يأخذ الماء احكاماً خمسة مختلفة حسب اذواق المرضى المختلفة وحالاتهم:

فهو دواء لمريض على حسب مزاجه، اي تناوله واجب عليه طباً. وقد يسبب ضرراً لمريض آخر فهو كالسم له، اي يحرم عليه طباً، وقد يولد ضرراً اقل لمريض آخر فهو اذن مكروه له طباً، وقد يكون نافعاً لآخر من دون أن يضره، فيسنّ له طباً، وقد لا يضر آخر ولا ينفعه، فهو له مباح طباً فليهنأ بشربه.

فنرى من الامثلة السابقة:

ان الحق قد تعدد هنا، فالاقسام الخمسة كلها حق، فهل لك ان تقول: ان الماء علاج لا غير، او واجب فحسب، وليس له حكم آخر؟.

وهكذا ـ بمثل ما سبق - تتغير الاحكام الإلهية بسَوْقٍ من الحكمة الإلهية وحسب التابعين لها. فهي تتبدل حقاً، وتبقى حقاً ويكون كل حكم منها حقاً ويصبح مصلحة.

فمثلا: نجد ان اكثرية الذين يتبعون الامام الشافعي رضى الله عنه هم اقرب من الاحناف الى البداوة وحياة الريف، تلك الحياة القاصرة عن حياة اجتماعية توحدّ الجماعة. فيرغب كل فرد في بث ما يجده في نفسه الى قاضي الحاجات بكل اطمئنان وحضور قلب، ويطلب حاجته الخاصة بنفسه ويلتجئ اليه، فيقرأ سورة الفاتحة بنفسه رغم انه تابع للامام. وهذا هو عين الحق، وحكمة محضة في الوقت نفسه. اما الذين يتبعون الامام الاعظم (ابو حنيفة النعمان) رضى الله عنه، فهم باكثريتهم المطلقة اقرب الى الحضارة وحياة المدن المؤهلة لحياة اجتماعية، وذلك بحكم التزام اغلب الحكومات الاسلامية لهذا المذهب. فصارت الجماعة الواحدة في الصلاة كأنها فرد واحد، واصبح الفرد الواحد يتكلم باسم الجميع، وحيث ان الجميع يصدقونه ويرتبطون به قلباً، فان قوله يكون في حكم قول الجميع، فعدم قراءة الفرد وراء الامام بـ (الفاتحة) هو عين الحق وذات الحكمة.

ومثلاً: لما كانت الشريعة تضع حواجز لتحول دون تجاوز طبائع البشر حدودها، فتقوّمها بها وتؤدبها، فتربى النفس الامارة بالسوء، فلابد ان ينقض الوضوء بمس المرأة وقليل من النجاسة يضر، حسب المذهب الشافعي الذي اكثر اتباعه من اهل القرى وانصاف البدو والمنهمكين بالعمل اما حسب المذهب الحنفي الذين هم باكثريتهم المطلقة قد دخلوا الحياة الاجتماعية، واتخذوا طور انصاف متحضرين فـ (لا ينقض الوضوء من مسِّ المرأة، ويسمح بقدر درهم من النجاسة). ولننظر الآن الى عامل والى موظف، فالعامل بحكم معيشته في القرية معرض للاختلاط والتماس بالنساء الاجنبيات والجلوس معاً حول موقد واحد، والولوج في اماكن ملوثة فهو مبتلى بكل هذا بحكم مهنته ومعيشته، وقد تجد نفسه الامارة بالسوء مجالاً امامها لتتجاوز حدودها؛ لذا تلقي الشريعة في روع هذا صدى سماوياً فتمنع تلك التجاوزات بامرها له: لا تمس ما ينقض الوضوء، فتبطل صلاتك. اما ذلك الموظف، فهو حسب عادته الاجتماعية لا يتعرض للاختلاط بالنساء الاجنبيات - بشرط ان يكون نبيلاً - ولا يلوث نفسه كثيراً بالنجاسات، آخذاً باسباب النظافة المدنية. لذا لم تشدد عليه الشريعة، بل اظهرت له جانب الرخصة - دون العزيمة - باسم المذهب الحنفي وخففت عنه قائلة: ان مست يدك امرأة اجنبية فلا ينقض وضوءك، ولا ضرر عليك ان لم تستنج بالماء حياء من الحاضرين، فهناك سماح بقدر درهم من النجاسة فتخلصه بهذا من الوسوسة، وتنجّيه من التردد.

فهاتان قطرتان من البحر نسوقهما مثالاً، قس عليهما، واذا استطعت ان تزن موازين الشريعة بميزان (الشعراني) على هذا المنوال فافعل.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم [

اللّهم صل وسلم على مَن تمثّل فيه انوارُ محبتك لجمال صفاتك واسمائك، بكونه مرآةً جامعة لتجليات اسمائك الحسنى .. ومَن تمركز فيه شعاعاتُ محبتك لصنعتك في مصنوعاتك بكونه اكملَ وابدعَ مصنوعاتك، وصيرورته انموذج كمالات صنعتك، وفهرستة محاسن نقوشك .. ومَن تظاهر فيه لطائف محبتك ورغبتك لاستحسان صنعتك بكونه أعلى دلالي محاسن صنعتك وأرفع المستحسنين صوتاً في اعلان حسن نقوشك وأبدعهم نعتاً لكمالات صنعتك .. ومَن تجمّع فيه اقسامُ محبتك واستحسانك لمحاسن اخلاق مخلوقاتك ولطائف اوصاف مصنوعاتك، بكونه جامعاً لمحاسن الاخلاق كافة بإحسانك وللطائف الاوصاف قاطبة بفضلك .. ومَن صار مصداقاً ومقياساً فائقاً لجميع من ذكرتَ في فرقانك انك تحبهم من المحسنين والصابرين والمؤمنين والمتقين والتوابين والاوابين وجميع الاوصاف الذين احببتهم وشرفتهم بمحبتك، في فرقانك حتى صار امام الحبيبين لك، وسيد المحبوبين لك ورئيس اودّائك وعلى آله واصحابه واخوانه اجمعين آمين برحمتك يا ارحم الراحمين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير