روى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية كلُّها، غير آيتين نزلتا بالمدينة: قوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} والتي تليها [الحج: 13، 12]. وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنها مدنية إِلا أربع آيات نزلت بمكة، وهي قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول. . .} إِلى آخر الأربع [الحج: 53 - 57]. وقال عطاء بن يسار: نزلت بمكة إِلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة: {هذان خصمان} واللتان بعدها [الحج: 20 - 22]. وقال أبو سليمان الدمشقي: أولها مدني إِلى قوله تعالى: {وبشر المحسنين} [الحج: 38] وسائرها مكي. وقال الثعلبي: هي مكية غير ست آيات نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: {هذان خصمان} [الحج: 20] إِلى قوله تعالى: {الحميد} [الحج: 25]. وقال هبة الله بن سلامة: هي من أعاجيب سور القرآن، لأن فيها مكياً، ومدنياً، وحضرياً، وسفرياً، وحربياً، وسلمياً، وليلياً، ونهارياً، وناسخاً، ومنسوخاً.
فأما المكي، فمن رأس الثلاثين منها إِلى آخرها.
وأما المدني، فمن رأس خمس وعشرين إِلى رأس ثلاثين.
وأما الليليُّ، فمن أولها إِلى آخر خمس آيات.
وأما النهاريُّ، فمن رأس خمس [آيات] إِلى رأس تسع.
وأما السفري، فمن رأس تسع إِلى اثنتي عشرة.
وأما الحضري، فإلى رأس العشرين [منها]، نسب إِلى المدينة، لقرب مدَّته.
وهذه الأقوال تحتاج إلى نظر في أسانيدها وهل يصح منها شيء أو لا يصح.
قال الشوكاني في تفسيره:
"وقد أخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه من طرق عن الحسن وغيره عن عمران بن حصين قال: لما نزلت {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْء عَظِيمٌ} إلى قوله: {ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} أنزلت عليه هذه وهو في سفر .... "
قال الألباني:
"ضعيف الإسناد"
وصححه من طريق آخر لكن بلفظ:
"قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فتفاوت بين أصحابه في السير فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته بهاتين الآيتين (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم) إلى قوله (عذاب الله شديد) ... "
وعلى فرض صحة الطريق الضعيفة التي تثبت أن السورة أنزلت عليه وهو في السفر فبالتأكيد لن يكون سفر الهجرة وفي نفس الوقت ينفي أن تكون السورة مكية كما زعم الجابري.
روى البخاري:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ
{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ}
قَالَ كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ فَإِنْ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ قَالَ هَذَا دِينٌ صَالِحٌ وَإِنْ لَمْ تَلِدْ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ هَذَا دِينُ سُوءٍ.
وروى البخاري أيضا:
عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ قَسَمًا إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}
نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَعُتْبَةَ وَصَاحِبَيْهِ يَوْمَ بَرَزُوا فِي يَوْمِ بَدْرٍ
وهذه الروايات الصحيحة تؤكد أن بعض هذه السورة نزلت بالمدينة وإذا أضفنا إلى هذا خطاب الله تعالى للمؤمنين في آخر السورة وأمره لهم بالجهاد ربما قوى هذا قول من قال إنها مدنية.
وقد ذكر بن عاشور رحمه الله في أول تفسير سورة الحج كلاما يعد الزبدة في هذا الموضع فإليكموه:
"واختلف في هذه السورة هل هي مكية أو مدنية. أو كثير منها مكي وكثير منها مدني.
فعن ابن عباس ومجاهد وعطاء: هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله هذان خصمان إلى وذوقوا عذاب الحريق. قال ابن عطية: وعد النقاش ما نزل منها بالمدينة عشر آيات.
وعن ابن عباس أيضا والضحاك وقتادة والحسن: هي مدنية إلا آيات (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي) إلى قوله تعالى أو يأتيهم عذاب يوم عقيم فهن مكيات.
وعن مجاهد، عن ابن الزبير: أنها مدنية. ورواه العوفي عن ابن عباس. وقال الجمهور هذه السورة بعضها مكي وبعضها مدني وهي مختلطة، أي لا يعرف المكي بعينه، والمدني بعينه. قال ابن عطية: وهو الأصح.
¥