تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

موضة "الرِّجَاليّة" لا "النسوية" لكان زميلى العزيز قد سارع إلى هذا التعبير وأمثاله واتخذه برهانا لا يصد ولا يرد على أن العربية لغة أنثوية، وجعله من ثم قضيةً ولا أبا حسنٍ لها!

وقلت له يومها أيضا إن المرأة إما أن تكون أما أو زوجة أوبنتا أو حبيبة: فأما الأم فقد كان المسلم يبرها غاية البر ويحترمها، فكيف يقال إن المرأة كانت محتقرة مهانة مهمشة مقصية ... إلى آخر هذا الكلام الكبير الذى ورد إلينا فى الأعوام الأخيرة من أوروبا فصار البعض يردده كما ورد فى عُلْبَته؟ وأما الزوجة فقد كان المسلم ينظر إليها على أنها عِرْضه وشرفه وكرامته، فكيف يقال إنه كان يحتقرها ويراها غير آدمية؟ ألم يكن يجرى لاهثا وراء لقمة العيش ثم يضع ما يكسبه فى يديها تتصرف به فى تسيير أمور البيت على النحو الذى تراه، وهى معززة مكرمة؟ وأما البنت فقد كان المسلم يعطف عليها ويعمل على إحسان تربيتها وتزويجها والقيام بما تحتاجه مثل الولد سواء بسواء، فكيف يُتَّهَم الآباء بأنهم كانوا قساة غلاظا أجلافا مع بناتهم؟ وأما الحبيبة فهذه حكاية وحدها، إذ كان الرجل يترامى على قدميها ويتمنى رضاها ويقدم روحه فداء لها وثمنا رخيصا لنظرة من عينيها تحييه أو تقتله قتلا. بل كان النقاد يوجبون عليه إذا نَسَبَ بها أن يبدى ضروب الذلة والخضوع حتى يكون نسيبه مقبولا، فالحب كما يقولون يخضع له الكبير والصغير والشريف والوضيع والملوك والسوقة، ليس عنه مَعْدًى. فكيف يزعم زاعم أن الرجل كان يقلل من شأنها وينزل بها إلى الحضيض الأسفل؟ فكان جواب الزميل العزيز أن المرأة التى يكتب هو عنها ويثبت وقوع الظلم عليها ليست هى الأم ولا الزوجة ولا البنت ولا الحبيبة ... فقلت له: فما الذى يبقى من المرأة بعد ذلك؟ الحق أنه لا يبقى فى هذه الحالة يا زميلى العزيز إلا المرأة المجردة. وأين بالله عليك يمكن أن نجد تلك المرأة المجردة؟ إنها لا وجود لها إلا فى الوهم والخيال. ذلك أن الواقع لا يعرف إلا المرأة المتجسدة فى صورة أم أو زوجة أو بنت أو حبيبة. وهؤلاء لم يحتقرهن الرجل كما قلنا.

والعجيب أن الزميل العزيز يقول هو أيضا هذا الذى أقوله، إلا أنه للأسف لا يمضى معه إلى آخر الشوط. قال (ص52): "ويبدو أن البلاغة فرّقت بين المرأة من حيث هى جنس عام يمثل المرأة فى كل عصر ومكان، وبين أنواع خاصة من النساء، فصوّرت المرأةَ بوصفها جنسا صورة سلبية، ولكن هناك صورة أخرى تتبدى حين يكنِّى بعض الكتّاب كابن العميد (ت360هـ) والصابى (ت384هـ) والصاحب بن عباد (ت385هـ) وغيرهم عن البنت بالكريمة، وعن الصغيرة بالريحانة، وعن الأم بالحرة والبرة، وعن الأخت بالشقيقة، وعن الزوجة بكبيرة البيت، وعن الحرمة بمن وراء الستر. فليس من شك فى أن هؤلاء وأمثالهم سيتحولون بالكناية عن المرأة وجهة أخرى تخالف ما هو مستقر فى المخيلة العربية حين يتصل الأمر بذوى قرابتهم أو المتصلين بهم (يقصد: بذوات قرابتهم أو المتصلات بهم) من بنات أو أمهات أو أخوات أو زوجات يصونهن عن الابتذال على الألسنة".

وإنى لأتساءل: وهل يقول أى أحد آخر فى ذوات قرابته شيئا غير الذى قاله هؤلاء فى قريباتهم؟ أليس كل إنسان يرى أمه وأخته وبنته وزوجته بنفس العين التى كان هؤلاء يرون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم وزوجاتهم بها؟ فإذا كان الأمر كذلك فهل يبقى حينئذ أحد من النساء موصوفا بالحقارة والهوان؟ وايم الحق لا. لكن الزميل العزيز لا يريد أن يبصر الحق الأبلج. والسبب؟ السبب هو أنه، كما سبق القول، قد أقبل على بحثه، وقد عقد العزم على أن ينتهى إلى تلك النتيجة. وهذا واضح لا يحتمل مراء.

وحتى يتيقن القارئ مما قلت عن موقف الزميل العزيز ألفت انتباهه إلى أنه يقول فى الفقرة السابقة على هذه مباشرة إن من دلائل احتقار العرب للمرأة قولهم: "المرأة ريحانة لا قهرمانة"، مع أننا قد رأيناه قبل قليل يعد وصفهم للصغيرة بالريحانة تبدُّلا فى الكناية وتحولا بها من الاحتقار إلى التكريم. فبالله هل وَصْفُ المرأة بأنها ريحانة تكريم أو تحقير؟ لا بد من الرسوّ على بَرٍّ، أما ترك الأمور متأرجحة على هذا النحو فمزعج. ومع ذلك فهل كان هذا هو كلام العرب جميعا؟ فلأورد هنا للقارئ الكريم السياق الذى قيلت فيه تلك العبارة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير