تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولنلاحظ قبل ذلك كله أن ابن الجوزى يخصص فى كتابه الحالىّ قِسْمًا لذكاء النساء ولا يقصره على الجنس الخشن وحده. بل لقد جعل المرأة فى حكايتنا هذه تنتصر على الرجل. وأى رجل؟ إنه الحجاج بشحمه ولحمه وليس أى رجل، وهو ما يدل على خطإ ما يدعيه الزميل العزيز. وعلى كُلٍّ فلقد كانت المرأة ولا تزال قهرمانة فى بيتها، فهى التى تدير شؤونه وتشرف على تربية الأولاد وتصرّف أمور المعيشة على النحو الذى تراه ... وهكذا. وما ضَرَّها أن يكون الرجل هو القهرمان فى الأمور التى تقع خارج البيت فى مجتمع يقسم المسؤوليات بين الجنسين على هذا النحو؟ أم هى مكايدة للرجل حبا فى المكايدة، والسلام؟

وإذا كان الشىء بالشىء يُذْكَر فقد ساق الزميل العزيز (ص13) حكاية أخرى تصور عزوف رملة بنت الزبير بن العوّام عن الدخول فى الخلاف السياسى بين أخيها عبد الله بن الزبير وزوجها خالد بن يزيد بن معاوية حين عاب خالدٌ أخاها بالبخل، فلاذت بالصمت، فسألها: "لم لا تتكلمين؟ أَرِضًا بما قلتُه أم تنزُّهًا عن جوابى؟ "، فكان جوابها: "ولكن المرأة لم تُخْلَق للدخول بين الرجال. إنما نحن رياحين للشَّمّ والضَّمّ، فما لنا وللدخول بينكم؟ "، فأعجبه قولها وقبّل ما بين عينيها. وكان رأي الزميل العزير أن الثقافة العربية قد ربَّت المرأة على الصمت عند اختصام الرجال وتَجَادُلهم حتى لو كان موضوع الجدال متصلا بها اتصالا حميما. يريد أن يقول إنها ثقافة "ذكورية قمعية" بالأسلوب الرطانى الجديد. والحق إن موقف رملة لموقف عبقرى. وإن ثقافةً تدفعها إلى انتهاج مثل تلك السبل لهى ثقافة راقية عظيمة شاهقة السموق. ويؤسفنى أنْ قد فات ذلك زملَينا العزيز، وإلا فماذا كان يريدها أن تفعل؟ أتردّ على زوجها مسفِّهَةً رأيه فينهدمَ البيت وتُوَلِّىَ سعادة الطرفين أم توافقه على ما قاله فى حق أخيها فتكشف عن خسة ونذالة؟ لقد خرجت تلك السيدة الحكيمة بالصمت عن لا ونعم. فلله دَرُّها! وهى بهذا إنما تبرهن أنها من العبقرية بمكان مكين وركن ركين لا كما يصفها زميلنا العزيز الذى يبدو وكأنه مغرم بإشعال الحرائق بين الرجال والنساء، إذ غاظه منها تلك الحكمة الألمعية. كفانا الله شر الحرائق والنيران فى الدنيا والآخرة جميعا!

كذلك تناسى الزميل العزيز أن هناك كتبا فى تراثنا وفى أدبنا الحديث تتحدث عن النساء وحدهن، ومؤلفوها من الرجال، ولهذا دلالته التى لا تخفى على أن المرأة لم تكن فى ثقافتنا هينة الشأن كما يريد أن يلقى فى رُوع القراء. ومنها الكتب التى تتناول أخبار النساء وما إليها لابن الجوزى والسيوطى وأضرابهما من علماء الدين وغيرهم، وفيها يتناول مؤلفوها المرأة بالحديث عما يميزها عن الرجل وعما يُسْتَحْسَن أو لا يستحسن من صفاتها وطباعها وأخلاقها وعما تسببه للرجال من العشق والوله الذى قد يبلغ حد الجنون. ومنها أيضا "تزيين الأسواق فى أخبار العشاق" لداود الأنطاكى، و"طوق الحمامة" لابن حزم، و"مصارع العشاق" للسراج القارى، و"الكُنَّس الجوارى فى الحسان من الجوارى" للشهاب الحجازى. وهناك من خصص للنساء المبدعات جانبا من بعض كتبه، كما صنع أبو الفرج الأصفهانى فى كتابه: "الأغانى"، ولسان الدين بن الخطيب فى كتابه: "الإحاطة فى أخبار غرناطة"، والدكتور مصطفى الشكعة فى كتابه: "الأدب الأندلسى" على سبيل المثال. وهناك من كَسَرَ كتابه كله على أدبهن، كما صنع المرزبانى فى "أشعار النساء"، والأصفهانى فى "الإماء الشواعر"، وابن طيفور فى "بلاغات النساء"، والمفجَّع البصرى فى "أشعار الجوارى"، والسيوطى فى "نزهة الجلساء فى أشعار النساء"، وعمر رضا كحالة فى "معجم أعلام النساء في عالمي العرب و الاسلام"، وبشير يموت فى "شاعرات العرب فى الجاهلية والإسلام"، وعبد البديع صقر فى "شاعرات العرب" ... وهكذا. وهو ما ينبغى أن يلفتنا إلى تلك الحقيقة الساطعة المتمثلة فى أن النساء، قبل ذلك كله، لم يكن يجدن عائقا أمامهن إن أردن أن يخطبن أو ينظمن شعرا أو يضربن مثلا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير