ونأخذ بعض الأمثلة: ففى "الإماء الشواعر" للأصفهانى نقرأ فى أول ترجمة فى الكتاب، وهى لعنان الناطفىّ، ما يلى: "وكانت أول من اشتهر بقول الشعر في الدولة العباسية، وأفضل من عُرِف من طبقتها. ولم يزل فحول الشعراء في عصرها يَلْقَوْنها في منزل مولاها فيقارضونها الشعر، وتنتصف منهم. وعُتِقَتْ بعد وفاة مولاها: إما بعتق كان منه لها أو بأنها وَلَدَتْ منه. فحدثني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني أحمد بن معاوية، قال: سمعت أبا حنش يقول: قال لي النطافيُّ يومًا: لو جئتَ إلى عنان فطارحتها. فعزمتُ على الغُدُوّ إليها، وبِتُّ ليلتي أجول ببيتين، ثم غَدَوْتُ عليها فقلت: أَجِيزِي هذين البيتين! وأنشد يقول:
أَحَبَّ الملاحَ البيضَ قلبي، وإنما * أحبّ الملاح الصفر من ولد الحَبَشْ
بكيتُ على صفراءَ منهن مرةً * بكاءً أصاب العين مني بالعََمَشْ
فقالت:
بكيت عليها. إن قلبي أحبها * وإن فؤادي كالجناحين ذو رَعَشْ
تُعَنِّتنا بالشعر لما أتيتَنا * فدونك خُذْه محكمًا يا أبا حَنَْش
أخبرني عمر بن عبد العزيز، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال حدثني: أحمد بن معاوية، قال: سمعت مروان بن أبي حفصة يقول: لقيني الناطفيّ فدعاني إلى عنان، فانطلقت معه، فدخل إليها قبلي فقال لها: قد جئتك بأشعر الناس: مروان بن أبي حفصة! وكانت عليلة، فقالت: إني عن مروان لفي شغل!، فأهوى لها بسوطه فضربها به، وقال لي: ادخل! فدخلتُ وهي تبكي، فرأيت الدموع تتحدر من عينيها فقلت:
بكت عنان فجرى دمعها * كالدُّرّ إذ يسبق من خيطه
فقالت مسرعة:
فليت من يضربها ظالمًا * تيبس يمناه على سوطه
فقلت للنطافي: أَعَتَقَ مروانُ ما يملك إن كان في الجن والأنس أشعر منها!
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال حدثنا عمر بن شبة عن أحمد بن معاوية، قال: قال لي رجل، تصفحتُ كتبًا فوجدت فيها بيتًا جهدت جهدي أن أجد من يجيزه، فلم أجده، فقال لي صديق لي: عليك بعنان جارية الناطفي، فأتيتها فأنشدتها:
وما زال يشكو الحب حتى حسبته * تنفس من أحشائه أو تكلما
فلم تلبث أن قالت:
ويبكي فأبكي رحمة لبكائه * إذا ما بكى دمعًا بكيت له دما
إلى أن رثى لِيَ كلُّ من كان مُوجَعًا * وأعرض خِلْوُ القلب عني تبرما"
فانظر إلى كل هذا الاحتفاء بالشاعرة وشعرها وتسليط الضوء على ذكائها وإبداعها وحسن بديهتها وحرص الجميع على تفضيلها على غيرها من الشعراء. لكن الزميل العزيز يضرب صفحا عن هذا كله وغير هذا كله، وهو كثير لا يمكن تجاهله ونكرانه، ليقول إن الشعر عند العرب فن هين القدر على عكس الكتابة النثرية، ولهذا استطاعت النساء أن يكنّ شاعرات. وهو يحيل هنا إلى كتاب ابن الأثير: "الجامع الكبير".
ثم إنه يردّ نبوغ عنان وأمثالها من الشاعرات إلى أنهن كن إماء، فساعدهن وضعهن هذا على التمرد على الثقافة السائدة. يقصد ثقافة تهميش المرأة وإقصائها عن ميدان الأدب. بل إن كتاب ابن طيفور، الذى اعتمد عليه فى الإشارة إلى اهتمام الكتاب العرب القدامى بإبراز الإبداع النسائى، إنما هو، فى نظره واصطلاحه، لون من "الكتابة الضد"، أى الكتابة التى تجرى على عكس ما هو شائع من التهوين من شأن المرأة والزعم بأنها لا وشيجة بينها وبين البلاغة، التى هى فى نظر أصحابها العرب ذكورية لا مدخل للإناث فيها بأى حال (ص19 - 20). وهو كلام يشى بأن الزميل العزيز، كما سبق أن أشرت، قد دخل موضوعه وقد عزم على أن يبحث عما يساند موقفه الجاهز مقدَّما، فإن هبت الريح بما لا يشتهى وظهر أن العرب لم يهملوا بلاغات النساء وأنهم لم يكونوا يرون أنه لا شأن لهن بالإبداع الأدبى عَمِلَ على أن يُنْطِق المرجع بما ليس فيه وأعطاه دلالة هى أبعد ما تكون عنه.
وإلى القارئ البيان: فمن المعروف أن العرب كانت تغالى بالشعر مغالاة شديدة حتى لكانوا يَعْزُون عبقرية الشعراء إلى وَحْى الجن، بما يفيد أنهم كانوا يرون الشعر هِبَةً غير عادية لا يسهل على البشر أن يحوزوها دون عون من عالم الشياطين، الذين هم مضرب المثل فى الإنجازات المعجزة. بل لقد قيل إن العرب إذا نبغ فى قبيلة من قبائلهم شاعر احتفلوا أيما احتفال وفاخروا به وتبادلوا التهانى وأقاموا الأفراح وعزفت النساء الموسيقى. ذكر ذلك ابن رشيق فى "باب احتماء القبائل بشعرائها" من كتابه: "العمدة فى محاسن الشعر وآدابه"، إذ
¥