تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قال: "كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائلُ فهنأتها، وصُنِعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس، وتَبَاشَر الرجال والولدان لأنه حمايةٌ لأعراضهم، وذَبٌّ عن أحسابهم، وتخليدٌ لمآثرهم، وإشادةٌ بذكرهم. وكانوا لا يهنِّئون إلا بغلامٍ يولَد أو شاعرٍ ينبغ فيهم أو فرس تُنْتَج".

وسواء أخذنا هذا النص على حرفيته أو على سبيل المجاز فالمعنى فى الحالتين واضح، وهو أن العرب كانوا يعتزون بالشعر اعتزازا بالغا، ولا يساوون به فى مجال القول شيئا. ثم كيف نصدّق ابن الأثير فى زعمه أن العرب كانت تقلل من شأن الشعر بالقياس إلى الكتابة النثرية وتراه شيئا هينا فى متناول كل أحد حتى الإماء، فى الوقت الذى لم يكن عندهم كتابة تقريبا حتى يمكن القول بأنهم كانوا يضعون الكتابة النثرية فوق الشعر؟ علاوة على أن المرأة العربية فى الجاهلية والإسلام كانت تمارس الخطابة كالرجال، والخطابة نثر من النثر. قد يقال إن ابن الأثير، حين فضل النثر على الشعر، إنما كان يعبر عن رأيه هو. لكن كان ينبغى ألا نتخذ من رأيه الفردى مقياسا نحاكم به الثقافة العربية كلها ونتهمها من ثم مثل تلك الاتهامات الظالمة.

ثم إن ابن الأثير، الذى استشهد به زميلنا العزيز على أفضلية النثر على الشعر بغية التهوين من إبداع النساء الشعرى ونسبة ذلك التهوين إلى العرب القدماء، كان يرى أن الشعر عند العرب أصعب منالا وأعصى إبداعا من النثر. ففى كتابه: "المثل السائر"، وفى معرض موازنته بين الشعر والنثر ورَصْد الفروق بينهما يؤكد أنه مما لا يحسن فى الذوق العربى أن يطوّل الشاعر قصائده ويشقق المعانى ويستوفى الكلام فيها مما هو أليق بالنثر، قائلا إن "الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورا متعددة ذوات معانٍ مختلفة في شعره واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتى بيت أو ثلثمائة أو أكثر من ذلك فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه، بل يجيد في جزء قليل، والكثير من ذلك رديء غير مَرْضِيّ. والكاتب لا يُؤْتَى من ذلك، بل يطيل الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة، وهو مجيد في ذلك كله، وهذا لا نزاع فيه لأننا رأيناه وسمعناه وقلناه". أى أن ابن الأثير ليس فقط هو الوحيد الذى قال فى تفضيل النثر على الشعر ما قال، بل هو نفسه يقول بصعوبة نظم الشعر إزاء سهولة الكتابة النثرية. ومع هذا فإن الزميل الكريم يعتمد على نص وحيد مثل هذا متخذا إياه حَكَمًا فى قضية غاية فى الحساسية والخطورة.

وفوق هذا كان الشعر عند القدماء هو ديوان العرب، إذ يشتمل على لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم وقيمهم وأديانهم وتاريخهم وحروبهم وقبائلهم وجغرافية بلادهم وأوضاع حياتهم كلها. كما أنه الملجأ الذى يعتصم به من كان يريد من العلماء تفسير القرآن. ولسنا نعلم للنثر شيئا من هذا. فكيف يحاول الزميل العزيز التهوين من شأن الشعر لحساب النثر كى يصل إلى تلك النتيجة الضعيفة البينة الضعف رغم أن معظم الحقائق تسير عكس اتجاه ريحه؟ يقول السيوطى فى كتابه: "الإتقان فى علوم القرآن": "قال أبو بكر الأنباري: قد جاء عن الصحابة والتابعين كثيرًا الاحتجاجُ على غريب القرآن ومُشْكِله بالشعر، وأنكر جماعة لا علم لهم على النحويين ذلك، وقالوا: إذا فعلتم ذلك جعلتم الشعر أصلاً للقرآن. قالوا: وكيف يجوز أن يُحْتَجّ بالشعر على القرآن، وهو مذموم في القرآن والحديث؟ قال: وليس الأمر كما زعموه من أنا جعلنا الشعر أصلاً للقرآن، بل أردنا تبيين الحرف الغريب من القرآن بالشعر، لأن الله تعالى قال: "إنا جعلناه قرآنا عربيا وقال: "بلسانٍ عربيٍّ مُبِينٍ". وقال ابن عباس: الشعر ديوان العرب، فإذا خَفِيَ علينا الحرف من القرآن، الذي أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه. ثم أخرج من طريق عِكْرِمَة عن ابن عباس، قال: إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمِسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب. وقال أبو عبيد في فضائله: حدثنا هشيم عن حصين بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عبد الرحمن بن عتبة عن ابن عباس أنه كان يُسْأَل عن القرآن فينشد فيه الشعر. قال أبو عبيد: يعني كان يستشهد به على التفسير. قلت: قد روينا عن ابن عباس كثيرا من ذلك، وأَوْعَبُ ما

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير