البصريّة قال في نفسه: تلك ماتت، فلِمَ أغيّر صدر هذه؟ فقال لها: كلّ امرأةٍ لي غيرك في جميع الأقاليم فهي طالقٌ ثلاثًا بقول جميع المسلمين. فقالت له: لا تَتْعَبَنّ، فقد طَلَّقْتَ الحبيبة. فندم الرّجل وأُسْقِطَ في يديه".
أما النص التالى فيرينا كيف كان المهدىّ الخليفة العباسى يعامل بناته. يقول عبد الله عفيفى فى كتابه: "المرأة فى الجاهلية والإسلام": "هذه ابنته البانوقة أعز الناس عليه وأحبهم إليه وأوحد أهل دهرها أنقًا وجمالا، فهل يجول في خيالٍ أو يخطر ببالٍ أن يُلْبِسها أبوها ثياب الجند ويقدّمها بين يدي موكبه في طريقه إلى الحج، وهي في نضرة العمر وربيع الشباب، أو كما يقول الطبري "كان المهدي في موكبه يسير وابنته البانوقة تسير بين يديه في هيأة الفتيان عليها قَبَاء أسود ومِنْطَقة وشاشيّة متقلدةً السيف، وقد رفع ثدياها القباء لنهودهما"؟ فهل رأيت كيف أبرز المهدي ربيبة الخلافة وسليلة العباس وعقيلة بني هاشم ونَصَبَها للعيون في زي يجتذب الأبصار ويستقيد النظار؟ ولم تطل حياة البانوقة، بل هصرها الموت في مقتَبل الشباب، فأخلت الطريق لأختيها عُليَّة والعباسة: فأما علية فكانت شاعرة مغنية جميلة متجملة روت لها كتب الأدب كثيرا من الشعر الغنائي، وفي كثير ما رووا تشبيبها بفتيين من مماليك الرشيد يُدْعَى أحدهما طَلاًّ والآخر رَشًا. وربما زجرها الرشيد فصحّفت اسميهما: وجعلت أولهما ظِلاًّ، والثاني زينب، وهما تصحيف طل ورشا. ومن قولها في طل:
أيا سَرْوَة البستان، طال تشوُّقي * فهل لي إلى "ظل" إليك سبيلُ؟
متى يلتقي من ليس يُقْضَى خروجه * وليس لمن يَهْوَى إليه دخولُ
عسى الله أن نرتاح من كربة لنا * فيلقى اغتباطًا خلةٌ وخليلُ
ومن قولها فيه كذلك:
سلم على ذاك الغزالِ * الأهيف الحلو الدلالِ
سلم عليه وقل له: * يا غُلَّ ألباب الرجالِ
خليتَ جسمي ضاحكا * وسكنت في "ظل" الحجالِ
وبلغتَ منَّي غايةً * لم أدر فيها ما احتيالي
ومن قولها في رشا:
وجد الفؤاد "بزينبا" * وَجْدًا شديدًا متعبا
أصبحتُ من كلفي بها * أُدْعَى سقيما مُنْصَبا
ولقد كَنَيْتُ عن اسمها * عمدا لكيلا تغضبا
وجعلت زينب سترةً * وكتمت أمرا معجبا
قالت وقد عز الوصا ل ولم أجده مذهبا:
والله لا نلتَ المودّ ة أو تنالَ الكوكبا
ومن قولها فيه، وقد حلف ألا يشرب النبيذ:
قد ثبت الخاتم في خنصري * إذ جاءني منك تجنيكِ
حرّمتُ شرب الراح إذ عِفْتَها * فلستُ في شيء أعاصيكِ
فلو تطوعتَ لعوَّضْتَني * منه رضاب الريق من فيكِ
فيالها عنديَ من نعمة * لستُ بها ما عشت أجزيكِ
يا زينبا قد أرَّقَتْ مقلتي * أمتعني الله بُحبِّيكِ
وكان الرشيد يستمع غناءها غير متحرج. وذكر صاحب الأغاني أنها تغنت، وأخوها يُزمّر لها، بقولها:
تحبَّبْ، فإنّ الحب داعية الحبِّ * وكم من بعيد الدار مستوجب القربِ
تَبصَّر، فإن حُدَّثْتَ أن أخا هوًى * نجا سالما فارْجُ النجاة من الحبِّ
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا*فأين حلاوات الرسائل والكُتْب؟ ".
وها هو ذا العباس بن الأحنف يتذلل غاية التذلل لحبيبته فوز ويراها ملكا متوجا على عرش قلبه لايستطيع أن يخالف لها أمرا، وحوراء من حُور الجنان ليس لها فى الفتنة والجمال نظير. وهو يستبطئ المنية كلما تأخرت رسائلها إليه. بل إنه لعلى أتم استعدادٍ لإفناء نفسه إرضاء لها، فلتفعل به وبقلبه ما تشاء ما دام هذا يسعدها. فكيف يقال إن المرأة العربية كانت محتقرة من الرجل لا يراها إلا نعلا ولا تمثل له إلا وعاء يفرغ فيه شهوته دون أية عاطفة؟ لنقرإ الأبيات التالية:
أَتاني كِتابٌ مِن مَليكٍ بِخَطِّهِ * فَما أَعظَمَ النُعمى، وَما أَضعَفَ الشُكْرا!
فَظَلَّت تُناجيني بِما في ضَميرِها * أَنامِلُ قد خَطَّت بِأَقلامِها سِحْرا
وَإِني لأَستَبطي المَنِيَّةَ كُلَّما * ذَكَرتُ التي لا أَستَطيعُ لَها ذِكْرا
فَلمّا تَفَهَّمْتُ الكِتابَ رَدَدتُهُ * إِلَيها، وَلَم أَبعَث بِرَدٍ لَهُ سَطرا
* * *
وَحَوراءَ مِن حُورِ الجِنانِ مَصُونَةٍ * يَرى وَجهَهُ في وَجهِها كُلُّ ناظِرِ
وَقَفتُ بِها لا أَستَطيعُ إِشارَةً * وَلا نَظَرًا، وَالطَّرْفُ لَيْسَ بِصابِرِ
فَما طَرَفَتْ عَينايَ لَمّا تَعَرَّضَت * لِشَيءٍ سِوى إيمائِها بِالمَحاجِرِ
¥