الأصل ظهر لي أن أصحاب القواميس يذكرون كل ما وصل إليهم ولو من فرد واحد، ولكنهم يبدؤون بالمعنى المتواتر الأصل، ثم يردفون بأقوال شاذة.
فلا شك أن ابن منظور ذكر من بين معاني " الإبل" السحاب كذلك، ولكنه لم يذكر هذا إلا بعد إيراد المعاني المعلومة.
ففي ضوء ما ذكرت من الآثار السيئة لتفسير القرآن [الكريم] بغير لغته أو الترجمة التفسيرية، أرى أن ترجمة معاني القرآن [الكريم] بهذه الطريقة لا يخلو من خلل، وفيه إطلاق الحرية لكل من شاء أن يعرب عن مرئياته وآرائه، وهي الترجمة التفسيرية [كذا]- يجعل القرآن [الكريم] مثل ترجمات الأناجيل حيث لا يعرف الدارس اليوم ما هو مقدار الأصل من بين أقوال الشارحين.
وبعد استعراض أنواع الترجمة لمعاني القرآن [الكريم]، أرى أنه لا بد أن تكون لدى علمائنا والمثقفين منا أسس لتقييم الترجمات، وماذا تكون هذه الأسس يا ترى؟ وفي مجتمعاتنا الإسلامية أنواع وأنواع من العقائد والنظريات والآراء والاتجاهات والأسس لا بد أن تكون مقبولة لدى الجميع.
وعلى هذا أجد الموضوع عويصا إلا أن نقيّم الأسس في ضوء العقيدة التي عليها جمهور المسلمين، وأغلبيتهم الساحقة هم أهل السنة والجماعة من المسلمين.
وقد انعقد الإجماع على أن القرآن [الكريم] نزل لغرضين أساسيين:
أولهما: كونه آية دالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، وذلك بكونه معجزا للبشر، لا يقدرون على الإتيان بسورة من مثله ولو اجتمع الإنس والجن على ذلك.
وثانيهما: هداية الناس لما فيه صلاحهم في دنياهم وأخراهم.
أما الغرض الأول وهو كونه آية على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فات يمكن تأديته بالترجمة اتفاقا، فإن القرآن [الكريم]- وإن كان الإعجاز في جملته بعدة معان كالأخبار بالغيب، واستيفاء تشريع لا يعتريه خلل، وغير ذلك ما عد في وجوه إعجازه – إنما يدور الأعجاز الساري في كل آية منه على ما فيه من خواص بلاغية جاءت لمقتضيات معينة، وهذه لا يمكن نقلها إلى اللغات الأخرى اتفاقا، فإن اللغات الراقية وان كان لها بلاغة، ولكن لكل لغة ملامحها المنفردة لا يشاركها فيها غيرها من اللغات، ولو ترجم القرآن [الكريم] ترجمة حرفية – وهذا محال- لضاعت خواص القرآن [الكريم] البلاغية، ولنزل القرآن [الكريم] من مرتبته المعجزة إلى مرتبة تدخل تحت طوق البشر، ولفات هذا المقصد العظيم الذي نزل القرآن [الكريم] من أجله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
أما الغرض الثاني وهو كونه هداية للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدارين فذلك باستنباط الأحكام والإرشادات منه، وهذا يرجع بعضه إلى المعاني الأصيلة التي يشترك في تفاهمها وأدائها كل الناس، وتقوى عليها جميع اللغات، وهذا النوع من المعاني يمكن ترجمته واستفادة الأحكام منه، وبعض آخر من الأحكام والإرشادات يستفاد من المعاني الثانوية، ونجد هذا كثيرا في استنباطات الأئمة المجتهدين، والترجمة الحرفية إن أمكن فيها المحافظة على المعاني الأولية، فغير ممكن أن يحافظ فيها على المعاني الثانوية مع أنها لازمة للقرآن [الكريم] دون غيره من سائر اللغات.
هذا من ناحية نظم القرآن [الكريم] والمعاني المستفادة منه، أما من ناحية الكلمات المشتركة المعنى، أو الكلمات التي توحي نوعا من العقيدة عن الكون والتاريخ وأسوة الأنبياء السابقين [عليهم السلام]، وفيها خلاف بين المفسرين القدامى والمحافظين، وبين المفسرين المتأخرين مثل كلمة " التابوت" ومعناها عند السلف بالاجماع هو صندوق التوراة، وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه، فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون، ويرى بعض المتأخرين أنه القلب Heart (( استنادا إلى ما نقله الزمخشري في الأساس، والبيضاوي في تفسيره من الأقوال الشاذة التي يذكرونها تحت كلمة " قيل"))، نظرا إلى أن القلب هو محل السكينة وليس الصندوق، ولكنهم ينسون أو يتناسون أن القلب لا ينتقل من مكان إلى مكان، ولا يأتي به أحد من الخارج، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [(البقرة: 248)].
وهناك معتقدات للمسلمين مثل عقيدتهم على وجود الجن كمخلوق من الله خلقه من نار، وفيهم المؤمنون ومنهم الفاسقون، ووجود الملائكة والإيمان بالمعجزات التي أتى بها الأنبياء لتصديق نبواتهم [عليهم السلام]، ورفع سيدنا عيسى [عليه السلام] إلى السماء حيا، وعقيدة جمهور المسلمين بأن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أخر الأنبياء ولا نبي بعده لا تابعا ولا متبوعا، لا صاحب شريعة ولا صاحب هداية بدون شريعة جديدة، فإذا كانت الترجمة طبقا لعقائد الجمهور التي مصدرها القرآن [الكريم] بدون اللجوء إلى التأويل والأخذ بالأقوال الشاذة، تكون مقبولة ولا بأس بأن يوجد فيها بعض الآراء الشاذة التي لا تمس العقيدة، مثل ترجمة الالية والآلاء بالقوة، وترجمة الإبل بالسحاب، وترجمة الابتلاء بالتربية ونحو ذلك، فإذا عثرنا على ترجمة جديدة رأينا عقيدة المترجم من خلال ترجماته وتفسيره لتلك العقائد ومدى مقدرته على فهم كتاب الله، واللغة التي اختارها للمترجمة شرط أساسي لصحة الترجمة والمترجم.
¥