ولذلك جهر القرآن [الكريم] بأن دعوته الشاملة لجميع بني الإنسان إنما يتفهمها منه أهل العقل والعلم والفكر، وقال في ذلك تارة: {يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (يونس: 5) ... وتارة: {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الروم: 28)، وتارة أخرى: {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: 24).
15 - وانطلاقا من ذلك فإن دعوة القرآن [الكريم] للإنسان قد اقتصرت على وجوب تعميق معرفته العلمية، والعقلية، والفكرية في مقاصد القرآن [الكريم] الكلية الثلاثة التالية:
أولا: في "مبدإ" هذا الكون والإنسان، وإنه هو "الله".
ثانيا: في "معاد" هذا الكون والإنسان وإنه إلى " الله".
ثالثا: في الالتزام بشريعة " معاش" الإنسان في حياته العرضية القصيرة على هذه الأرض "بعمارتها"، والمسؤول عن " عبادة الله فيها"، وذلك من أجل ضمان سعادته فيها فردا وجماعة أولا، ثم ضمان سعادته الأبدية بعدها ثانيا، وقد تضمنت شريعة القرآن [الكريم] " الإرشادات " إلى كل ذلك بصورة كلية، وقد بين الرسول [صلى الله عليه وسلم] ما لا بد من بيانه، وترك للمؤمنين "حق الاجتهاد" في جميع ما يجّد لهم مما قد سكت عنه القرآن [الكريم] والرسول [صلى الله عليه وسلم].
16 - ولقد تناول القرآن [الكريم] تلك المعارف الثلاثة في مجموعة من الآيات بلغت (6342) آية، وقد تناولها جميعا على أسس تربوية علمية كما سنشير إليها مرة ثانية في مبحث " التربية العلمية"، وربط فيها لذلك ما بين الإيمان بالله وبين أوامر الله وبالالتزام بشريعة " معاش الإنسان" من أجل خيره وسعادته في المعاش والمعاد.
غير أن ما قد خصص للمعرفة حول شريعة " معاش" الإنسان مدة حياته العرضية القصيرة على هذه الأرض لم يتجاوز "خمسمائة" [500] من آيات الإحكام الشرعية، أي أنها كانت دون العشر من مجموع آيات القرآن [الكريم]، وذلك تقديرا لتطور الإنسان واختلاف وقائع الحياة، ورغبة في مساهمة الإنسان باستنباط الأحكام وفقا لقواعد القرآن [الكريم] العلمية العقلية الثابتة في كل ما قد يجّد له من وقائع حيوية حديثة لم يتناولها القرآن [الكريم] ولا الرسول [صلى الله عليه وسلم].
17 - وقد كانت كل آيات القرآن [الكريم]، وفي جميع المعارف الثلاثة الواجبة، هي آيات كلية إرشادية لجميع رجال العلم، من غير كهنوت أو احتكار للعلم في الإسلام، وكما ترك للإنسان، تبعا لتغير الظروف وتقدم العلم، حرية النظر والتعمق العلمي والتفنن فيه حول حقائق المبدإ والمعاد، فكذلك كانت آيات الأحكام حول "شريعة معاش الإنسان" كلية مثلها، واشتملت على قواعد وأحكام عامة واجبة العمل بها على مثل الأحكام العامة في الدساتير العالمية اليوم. غير أن هذه الأحكام الكلية في القرآن [الكريم] هي مما لا يقبل التغيير والتبديل وذلك بسبب طبيعتها الثابتة علما وعقلا ومصلحة، كالأمر بوجوب العدل بين الناس، وكتحريم البغي والظلم، وكإيجاب الشورى في أمور الأمة.
18 – هذا وقد ترك للرسول [صلى الله عليه وسلم] بنص القرآن [الكريم] بيان جميع ما قد كانوا في حاجة إلى بيانه حسب الوقائع مدة حياته، كما ترك للمسلمين حرية الاجتهاد فيما قد سكت عنه بيان الرسول [صلى الله عليه وسلم]، بل وكذلك فيما سكتت عنه نصوص القرآن [الكريم]، وذلك في كل ما قد ما يجّد لهم من وقائع مع تغير الظروف والأزمان، وقد ألحق بالشريعة كل ما جاء به الاجتهاد، كما هو ثابت ومعروف لدى كل دارس لشريعة الإسلام، وهكذا فإن الاجتهاد في إصدار الأحكام كان وما يزال حقا ثابتا للفرد والجماعة بإقرار وتشجيع من رسول الإسلام [صلى الله عليه وسلم]. وليس من حق أحد إيقاف هذا الاجتهاد، بل قد ندب الرسول [صلى الله عليه وسلم] أحيانا إلى الشورى في الاجتهاد، فقال جوابا لسائل عن أحكام مسائل لم يأت لها ذكرا في القرآن [الكريم] ولا في السنة فقال: "
اجمعوا له العالمين، ولا تقضوا فيه برأي واحد " [(ضعيف منكر): السلسلة الضعيفة الحديث رقم 4854].
وبذلك تسقط دعوى من زعم من المستشرقين بأنه لا حق لأحد من الأمة بالمساهمة في استحداث الأحكام عملا بشريعة القرآن [الكريم]، وأن ذلك " ... قد نزع نهائيا من أيدي المؤمنين على الأرض واختص بها الله وحده"
¥