ومن رأي الأستاذ رمضان أن الإعجاز منصرف إلى البيان وإلى المضمون معا لأن الكمال في الدين الذي أعلنه القرآن [الكريم] بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [(المائدة:3)] لا يتجلى " ما لم يعين هذا الدين الأبعاد المادية والمعنوية والمنهج الذي يجب أن يتخذ في حياة البشر، وفيما سيستقبلونه من عالم الآخرة ".
ومن حجج الدكتور عبد الصبور شاهين أنه:" لم يحدث أن طالب النبي صلى الله عليه وسلم قومه أن يأتوا بمثل مضمون القرآن [الكريم] من حقائق الكون، فالفرق بين الأمرين عظيم، لأن البيان باب يحتمل صنع الله وصنعة البشر، أما هذه الحقائق الكونية فلا مجال للبشر في صنعها، ولا يتخيل عاقل أن يطالبوا بالإتيان بمثلها أو بمحاكاتها، فقد خرجت إذن عن مفهوم المعجزة بالمعنى الدقيق للكلمة".
ويرى الأستاذ رمضان أنه: " كما أن الإعجاز البياني قد جاوز قدرات البشر التعبيرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يوم يبعثون، فإن الإعجاز (العلمي) في كشف المضمون قد جاوز القدرات البشرية في عهده صلى الله عليه وسلم، وسيبقى كذلك إلى يوم يبعثون"
وقد طال الجدل بين الأستاذين الكبيرين في ذلك.
والذي أرى في هذا الشأن:
أولا: أن هناك حلقة مفقودة هي جسر الاتصال والتوفيق بين الرأيين وهي: وجوب التمييز بن غرض الهداية إلى الله في القرآن الحكيم، وغرض لإثبات مصدرية القرآن [الكريم] الإلهية بلفظه ونصه عن طريق التحدي بإعجازه لا من جهة كونه في الواقع معجزا، فالكون كله معجز لا القرآن [الكريم] فقط.
ذلك أن إثبات المصدرية الإلهية لا بد فيه من التحدي، ولا يكفي فيه كون القرآن [الكريم] معجزا في ذاته، فقد يكون معجزا ولا يطلب الله تعالى فيه التحدي كما لم يطلب سبحانه من الناس متحديا لهم أن يخلقوا كونا كالكون الذي هو خالقه.
فالتحدي بالقرآن [الكريم] في نظري وتقديري، منصرف قبل كل شيئ إلى الناحية البيانية لأن البلاغة والسمو في بيانه هي التي يتوافر فيها لدى من يتحداهم إدراك أبعادها، وامتلاك أدواتها، وهي الحرف والكلمة التعبيرية.
ثانيا: أن كمال الدين شيء، وإعجاز القرآن [الكريم] لإثبات نزوله بلفظه ونظمه من عند الله تعالى شيء أخر.
فحقائق المضمون تثبت صحة ذلك المضمون بأي لفظ وتعبير صيغت مما يعبر عنها ويصورها، فهذه الحقائق في المضمون متى عرفت، بأي طريق من طرق المعرفة، ولو بالاكتشاف العلمي اللاحق، دون أن يعجل القرآن [الكريم] بالإشارات الإجمالية إليها تكفي لإثبات وجود الخالق، ولكنها لا تثبت مصدرية اللفظ من حيث انه لص لفظي منظوم بهذا السبك، لا يمكن صدوره كلفظ منظوم إلا من عند الخالق، وإنما الذي يثبت هذه المصدرية للنص اللفظي هو الإعجاز البياني بطريقة التعبير والنظم، أما المضمون العلمي وحقائقه وصحته فهو دليل على الخالق فقط، ولا علاقة له بإثبات مصدرية اللفظ.
فيجب التميز بين الغرض القرآني من حيث الهداية إلى الله، وهذا غرض يساهم في تحقيقه البيان والمضمون العلمي في إشاراته الإجمالية إلى الحقائق الكونية الكافية للدلالة على الله تعالى، وبين الغرض القرآن في إقامة المعجزة
لإثبات مصدرية اللفظ بنصه ونظمه بطريق التحدي، فهذا الغرض الثاني إنما يحققه البيان المعجز ببلاغته وأسلوبه، وليس المضمون العلمي.
ويلحظ أيضا أن المعجزة تتوقف على إدراك حالي لإعجازها، قائم هذا الإدراك لدى من تتحداهم وقت التحدي، أي وقت الخطاب، ولا يجوز أن يكون هذا الإدراك متوقفا على اكتشاف علمي مستقل، لأن هذا التوقف يقضي بإخراج من خوطبوا قبلا من نطاق التحدي.
ولا شك أن المضمون العلمي، الذي يشير في مواطن كثيرة من القرآن [الكريم] إلى الحقائق الكونية المذهلة والمثبتة لوجود خالق الكون بصورة يقينية، هذا المضمون العلمي يتوقف إدراك صدقه وصحته على الاكتشافات العلمية المستقبلية بعد عصر إعلان النص اللفظي، فلم يبق ما يتحقق به الإدراك الحالي للإعجاز إلا الجانب البياني المعجز الذي يتحدى كل قادر على البيان أن يظهر قدرته على محاكاته، فبهذا التحدي والإعجاز تثبت مصدرية النص بلفظه ونظمه، ثم يتبعه ويتفرع عنه صحة المضمون.
¥