والعبرة المثيرة أن جميع الرسل يتوجهون أولا وأساسا إلى غرس العقائد في النفوس، لأن الإنسان بالعقيدة إنسان، ولكنه بغير العقيدة قد يكون وحشا ضاريا، وذئبا غادرا، أو حشرة تافهة تأكل وتشرب.
ولنضع في حسابنا حياة من يعتقد إنها دنيا فحسب، فليس هناك خالق يراقب، معاد يحاسب فيه ويعاقب، لا بد أن يحصر حياته في دائرة نفسه وأنانيته وشهواته، يكاثر ويغالب ليحظى من الدنيا بأوفر نصيب، بأي سبب ومن أي طريق، وبأي وجه، يحيا بدماء الناس وهو بذلك فرح فخور، ويرحب بالظلم إن حقق لذة، وبالغدر إن جر منفعة، وبالغش إن إحراز غنيمة، ومجتمع يكثر فيه أمثال هذا، لا بد أن تسود فيه شريعة الغاب وتتحكم فيه طبائع الوحوش، ويحث الخطى إلى مهاوي الهلاك والدمار.
وثاني مقاصد القرآن [الكريم] الشرائع، وكل ما يتعلق بأفعال الجوارح، من الأوامر والنواهي، وهي قسمان: العبادات والمعاملات.
فالأولى هي التي تتعلق بصلة العبد بربه، والثانية هي التي تتعلق بصلة العباد بعضهم ببعض.
والعبادة خضوع بالغ حد النهاية، ناشئ من استشعار القلب عظمة الله الواحد القهار، ولكل عبادة من العبادات المفروضة أثر في تقويم الأخلاق وتهذيب النفس وترقية الروح، وتحقيق الوحدة الشعورية بين المسلمين، وتوثيق الصلة بالخالق سبحانه وتعالى، وعلى قدر الشعور بعظمة المعبود، يكون هذا الأثر، فإذا خلت العبادة من هذا المعنى لم تكن عبادة، ولو أداها الإنسان ونهض بها، فشتان بين عبادة روحية صادقة، اتصل فيها القلب بخالقه، وعبادة صورية جوفاء شغل فيها القلب عن خالقه بمفاتن الدنيا ومغريات الحياة.
والمعاملات بين العباد يرسيها القرآن الكريم على قاعدة الإيمان بالله، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، والذي يجازي العامل الصالح بالرضا والثواب، وأيضا على أساس المحبة والأخوة والإيثار.
وعلى هذا الأساس الذي بنيت عليه المعاملات بين الناس ينتفي أن يكون في المجتمع الإنساني فئة ظالمة وأخرى مظلومة، أو فئة مستَغِلَّة وأخرى مسْتَغَلَّة، أو فئة قوية وأخرى ضعيفة، لأن الجميع قد ارتبطوا بآصرة الأخوة والمحبة والوئام، وتساموا عن المطامع والأغراض الشخصية، كيف لا؟ وهم يوقنون برقابة الله وفخامة جزائه.
وكلا القسمين العبادات والمعاملات معروض في القرآن الكريم في عبارات بليغة وأسلوب مشوق، وآيات بينات كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِين} و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} و {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} و {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} و {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وثالث المقاصد التشريع، إن ما يشرعه الفرد للفرد أو الجماعة للجماعة تشريع أرضي لا يتفق وفطرة الإنسان، وكل أحواله وكل ظروفه، لأنه تشريع الإنسان الذي يصيب ويخطئ، أما التشريع الحق فهو تشريع السماء تشريع الخالق للمخلوق، تشريع القرآن [الكريم] الذي يجمع بين المادة والروح وبين الدنيا والآخرة، ويراعي أطوار الحياة، وظروف الإنسان، فيعطي لكل دور وكل ظرف ما يناسبه ويلائمه.
والتشريع القرآني أنواع:
التشريع الاجتماعي: ونجده مثلا في الآيات التي توجب الزكاة وإخراجها لمستحقيها، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 60)، وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة: 215).
¥