الدين ": لا ريب أن القرآن [الكريم] قد أدهش نوابغ العرب وأخرس شقشقة البلغاء في عصره.
ولكن ألأسلوبه الرائق، ولفظه الريق، ونظامه العجيب؟ أم لبدائع معانيه الجذابة، وعظمة مبادئه، ولطائف أمثلته؟ لا نعلم… وإنما نعلم أنه أدهش ويدهش العربي العارف… وربما كان أثره في العامة من النواحي الأولى، وفي الخاصة من النواحي الأخرى. كما أثر بأنبائه الغريبة، وبأسرار إشاراته واستعاراته في الأجيال السائرة.
أجل، هذا القرآن [الكريم] مدهش من أي وجه كان، وآية عبقريته ساطعة، وقد استعان به منقذ العرب على هدايتهم بعد ما غدوا سكارى بخمرته، فأحيا ذكرهم، وأصلح أمرهم، وأدبهم كما شاءت المصلحة، وأستخرجهم من ظلمة العادات القاسية إلى ضياء عيشة راضية ... ثم استخدم أولئك المهتدين بأنوار القرآن [الكريم] كألسنة الدعوة الأم، وسيوف لإدانة العالم. ويستطرد إلى بيان ميزة القرآن بين المعجزات، فيقول بأسلوبه السهل البليغ: (إن أكبر ميزة في القرآن [الكريم]- وهي التي وضعته فوق المعجزات كلها- هي أنه مجموعة فصول ليست سوى صبابة أحرف عربية ... من أيسر أعمال البشر، وقد فاقت بعد ذلك عبقرية كل عبقري ... فلم يخلق رب الإنسان للإنسان عملاً- بعد التفكر- أيسر لديه من الكلام " ... وكلما كان العمل البشري أيسر صدورًا، وأكثر وجودًا، قل النبوغ فيه وصعب افتراض الإعجاز والإعجاب منه. هذا، ونرى الناس في عهدنا مطبوعين على استحباب الشهرة والأثرة وطلب التفاضل والتفاخر، فإذا رأوا أحدهم يبغي التفوق عليهم بصناعته، اندفعوا بكل قواهم إلى مباراته، وجدوا لكي يأتوا بخير منه ... وقد فطر البشر على مثل هذا الشعور ... والشعب العربي المعاصر للنبي صلى الله عليه وسلم كان ولا ريب منطويًا على هذا الشعور تمامًا.
فلماذا لم يندفع إلى مباراة القرآن [الكريم]؟! ولاسيما بعد ما شاهدوا من صناعة النبي صلى الله عليه وسلم فائدة وعائدة. ولمَ لَمْ يعارضوا عبقريته في البلاغة وهو فرد وهم ألوف؟!!. ألعدم وجود أساتذة فيهم لهذه الصناعة؟ كلا. لقد كانت تربة الحجاز خصبة منبتة لأساتذة الفصاحة والبلاغة ... فلم لم يندفعوا إلى معارضته بالمثل، وهو المعارض لهم بكل ما يستطيع من قوة؟! ولماذا اندفعوا إلى مقاتلته دون مقابلته؟ .. وإلى مقابلته بالأسنة دون الألسنة؟! وبالحراب بدل الكتاب؟! حتى أفرغوا كنانتهم برمي آخر نبلة فيها ولم ينجحوا.
ليت شعري مم وبم أعجزت عبقرية ذلك الفرد المستضعف فيهم وهم ألوف، معتزون بألوف؟ وكيف أعجزتهم أسطر وكلمات وحروف ... !! ثم ينتقل المؤلف إلى تحليل تلك الدهشة وتعليل بواعثها، فيقول: أحرى بنا أن نحلل هذه الدهشة الغريبة وأسبابها الحقيقية ونقيس أنفسنا (ونحن في هذا القرن) على أولئك الأساتذة (وإن كانوا في القرون الأولى) قياسًا حسب ذلك المقياس القائل. الناس كالناس والأيام واحدة فإذا عم الإعجاب بالقرآن [الكريم] أساتذة عصرنا الراقي، فلا نلوم المعجبين بالقرآن [الكريم] في القرون الأولى .. ". ثم يستشهد بتقدير العلامة " جبر ضومط " في كتابه " الخواطر الحسان " لآيات القرآن [الكريم] وبلاغتها، وبشعر ونثر للفيلسوف الدكتور شبلي شميل القائل:
دع من محمد، في صدى قرآنه = ما قد نحاه للحمة الغايات
إني وإن أك قد كفرت بدينه = هل أكفرن بمحكم الآيات
ومواعظ لو أنهم عملوا بها = ما قيدوا العمرات بالعادات
من دونه الأبطال في كل الورى = من حاضر أو غائب أو آت
كما قال: إن في القرآن [الكريم] أصولاً اجتماعية عامة فيها من المرونة ما يجعلها صالحة للأخذ بها في كل زمان ومكان ... حتى في أمر النساء، فإنه كلفهن بأن يكن محجوبات عن الريب والفواحش، وأوجب على الرجل أن يتزوج واحدة عند عدم إمكان العدل ..
والقرآن [الكريم] قد فتح أمام البشر أبواب العمل في الدنيا والآخرة، بعد أن أغلق غيره من الأديان تلك الأبواب ... وذكر أن الشيخ " ناصف اليازجي " أوصى ولده " إبراهيم " لتقوية براعته في الأدب العربي قائلاً: "إذا شئت أن تفوق أقرانك في العلم والأدب، وصناعة الإنشاء، فعليك بحفظ القرآن [الكريم]، ونهج البلاغة " ... ونوه بإعجاب طائفة من نوابغ الفرنجة أمثال " كارليل " و " ولز " و " تولستوي " و " مونتيه " بالقرآن الشريف وبعبقرية النبي صلى الله عليه وسلم.
¥