لم يحن ذلك إلا بعد انتصار ثورة أكتوبر، وهكذا في يوم التاسع من كانون الأول (ديسمبر) من عام 1917م، أي بعد انتصار ثورة أكتوبر مباشرة كتب مؤسس الدولة السوفيتية فلاديمير (إليتش لينين) إلى مفوض الشعب الخاص بالشؤون التعليمية (أ. ق لوناتشارسكي) ما يلي: " ورد إلى مجلس مفوضي الشعب خطاب من المؤتمر الإسلامي المنطقي في مقاطعة بتروغراد القومية، وفي هذا الخطاب وتنفيذا لأماني جميع مسلمي روسيا، يرجو المؤتمر إعادة " مصحف عثمان " [رضي الله عنه] الموجود في الوقت الحاضر في المكتبة العمومية التابعة للدولة إلى المسلمين وإدخاله في حيازتهم ... ".
وهكذا أعيد المصحف الشريف إلى المسلمين، وانتشر هذا الخبر المفرح في جميع أرجاء البلاد، ونشر على صفحات كثير من الجرائد والمجلات، وقد كتب العالم الديني المشهور موسى جار الله في جريدته " المنبر" التي كانت تصدر في لينينغراد بأن " المصحف الكريم" الذي تم أخذه من مسجد خوجة أحرار بتغاضي من بعض الشيوخ والمفتيين أعيد أخيرا إلى المسلمين، ولو بقي مصحف القرآن الكريم هذا في سمرقند لكان من الممكن أن يتعرض للسرقة من قبل الزوار والسواح".
لقد نقل مصحف عثمان [رضي الله عنه] في البداية من سانت بتربورغ إلى مدينة أوفا، حيث كانت توجد آنذاك الإدارة الدينية لمسلمي سيبيريا والقسم الأوروبي من الإتحاد السوفيتي التي كانت في حينها المنطقة الدينية الوحيدة للمسلمين.
بقي المصحف الشريف في أوفا إلى عام 1923م، إلى حين أن تقدم مسلمو تركستان بطلب لنقله من أوفا إلى طشقند أو سمرقند.
وإلى ذلك الوقت كان قد تم تأسيس جمعية مسلمي طشقند وسيرداريا التي راحت تطالب بنشاط وإلحاح لإعادة المصحف الشريف إلى مكانه القديم.
وفي عام 1924م أرسلت الجمعية الإسلامية في طشقند وفدا إلى أوفا برئاسة ظاهر الدين أعلام، وقام هذا الوفد بنقل المصحف الشريف في عربة خاصة من عربات القطار إلى طشقند، وقد رافقه جمع من العلماء الأجلاء من تتريا وبشكيريا من أمثال سماحة المفتي رضاء الدين فخر الدين، وفضيلة الشيخ عبد الله سليمان، وفضيلة الشيخ عبد الرحمن وغيرهم.
وفي طريق العودة أستقبل ألوف المسلمين القطار الناقل للمصحف الشريف ورحبوا بمرافقة العلماء الكرام، وأما فرحة سكان طشقند فقد كانت أكبر بكثير حيث قام المسلمون طوال أشهر كثيرة بزيارة المصحف الشريف والتبرك به [؟؟]، وابتهجوا لعودته ودخولة من جديد في حوزتهم.
هذا هو باختصار تاريخ العودة الثانية لمصحف القرآن الكريم إلى تركستان.
والآن فلنتحدث ببضع كلمات حول كيفية وصول هذا المصحف الشريف إلى سمرقند، ومن أين؟ وبأي سبب؟
من المعروف أن الدين الإسلامي الحنيف قد وصل إلى حدود تركستان بعد مرور نصف قرن بالضبط منذ بشر به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وراح عدد معتنقي وأتباع هذا الدين القويم يزداد بسرعة بين السكان المحليين، وقد انتشر الإسلام في هذه البلاد بسرعة مدهشة، واستحوذ على عواطف ومشاعر وعقول السكان المحليين.
وكان السبب في ذلك يكمن – بالدرجة الأولى – في وقار التعاليم الإسلامية بالنسبة للدين القديم الزردشتية الذي كان سائدا في هذه الأقطار والذي كان قد دخل إلى ذلك الحين في حالة التدهور والانحطاط.
لقد اجتمع كبار العلماء والفقهاء والمفسرين والمحدثين وتمركزوا في مدن بخارى وسمرقند وغيرهما، وقد اشتهرت بصفة خاصة في ميدان الفقه الخاص بالمذهب الحنفي ما وراء النهر الدولة القوية في العصور المبكرة للقرون الوسطى، التي التحقت حدودها بحدود الصين في الشرق والهند في الجنوب، وهنا بالذات جرت أحداث ذات أهمية عالمية، وسعى إلى هنا أبرز العلماء من سائر أرجاء العالم الإسلامي، وخاصة في سنوات الفتن والفوضى.
لا توجد بين أيدينا معلومات موثوق بها حول إيصال مصحف عثمان [رضي الله عنه] إلى هذه الديار، ولهذا فإننا سنستند في أدلتنا على مواد المصادر التاريخية، ولو أن الأدلة الواردة فيها متنوعة للغاية، إلا أنها تحتوى – طبعا – على نواة معقولة أيضا.
¥