الحمد لله ينزل الطمأنينة في قلوب المؤمنين .. فتسعد قلوبهم بأمر الله وتسكن نفوسهم لقدر الله .. والصلاة والسلام على محمد ابن عبد الله، الذي تتجلجل الأرض حوله وهو مطمئن ساكن القلب بفضل الله ونعمته عليه ورحمته به ..
أما بعد ..
فإن من القربات والأعمال الصالحات والنعم المجزيات، التي تتصف بها القلوب المؤمنة الصائمة صفة السكينة والطمأنينة ..
والسكينة هي طمأنينة القلب مع اختلاف الأحوال ومشاهدة الأهوال .. فالسكينة ثبات المرء عند نزول المحن المقلقة والأمور الصعبة التي تشوّش القلوب وتزعج العقول وتضعف النفوس، بحيث يبقى القلب ثابتا ًمستمرًّاً في إقامة أمر الله، لا يشغله أمر عن ذلك، بحيث أنه تشغله ملاحظة وعد الله بنصر أولياءه عن شدّة ما هو فيه من ألم وخوف ..
السكينة هي الطمأنينة والوقار .. والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه حال شدّة خوفه، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه مما يوجب زيادة الإيمان وقوة اليقين والثبات .. إذا نزلت السكينة على القلب اطمئن بها وسكنت إليها الجوارح، وخشعت واكتسبت الوقار، وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخنا والفحش، واللغو والهجر، وكل باطل ..
إذا ترحّلت السكينة زال السرور، وابتعد الأمن وفارق المرء الراحة ..
السكينة منّة من الله، ونعمة من رب السماوات والأراضين كما قال سبحانه (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) الفتح: 4
وقال الأنفال: ِإذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان)
وقال: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) الفتح 18
وقال تعالى: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الفتح: 26
وقال سبحانه ممتناً على المؤمنين: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (آل عمران: 126 ..
انظر إلى حال أهل الكهف الذين قال الله عنهم: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ) الكهف: 14 أي ثبتنا قلوبهم بالطمأنينة والسكينة حتى يطمئنوا، فلا ينجزعوا ولا يخافوا من الناس، وحتى يصدعوا بالحق، وحتى يصبروا على فراق الأهل والنعيم عند فرارهم بدينهم، في غار، و جبل لا أنيس فيه ولا ماء به ولا طعام، ولا يخفى عليك خبر الهجرة حيث خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما وحيدان أعزلان، لا سلاح معهما، يدخلان الغار، وقريش بكمالها وما لديها من عدد وعُدّة يقفون على ذلك الغار، بقلوب حانقة وسيوف مُسلّه وآذان مرهفة، فيقول أبوبكر الصدّيق: [لو نظر أحدهم تحت نعليه لأبصرنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو في غاية الطمأنينة ومنتهى السكينة: ما بالك باثنين الله ثالثهما] ..
وأعجب من ذلك في يوم بدر .. تأتي قوى الشر في خُيلائها وتكبّرها وعُدّتها وعتادها، وأمامهم جند الله في قلّة من العدد وقلّة من السلاح، فتنزل الطمأنينة على المؤمنين ويعقبها النصر المبين في تلك المواطن الخطيرة ..
هناك مواطن ورد في الشرع تأكيد الأمر بالسكينة فيها، ومنها:
1 - حال المشي إلى الصلاة .. كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وانتم تسعون، وأتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلّوا وما فاتكم فأتمّوا}. ومن ذلك أثناء حال أداء الصلاة .. ففي صحيح مسلم من حديث جابر ابن سمُرة مرفوعا: {أسكنوا في الصلاة} .. 2 - ومن ذلك في مشاعر الحج، قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من عرفة في الحج: {أيها الناس السكينة .. السكينة، قال جابر: ففاض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة، وأمرهم بالسكينة}
3 - قال الإمام مالك: [على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية].
4 - السكينة والطمأنينة نعمة من الله للعبد في أوقات الشدائد التي تطيش لها الأفئدة، وتكون الطمأنينة على حسب معرفة العبد بربه .. وثقته بوعده الصادق بنصر أولياءه، وبحسب إيمانه وشجاعته ..
من أسباب تنزّل السكينة:
1 - الاجتماع في طلب العلم وإقراء القرءان .. ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده}.
2 - ومن أسباب تنزّل السكينة في القلوب قراءة القرءان فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {تلك السكينة تنزّلت للقرءان}.
3 - ومن أسباب السكينة الدعاء .. فقد جاء في الأثر أن الصحابة دعو [فانزلن سكينة علينا، وثبت الأقدام إن لاقينا] فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يردد هذه الكلمات في يوم الأحزاب مع الصحابة فنصرهم الله على عدوّهم، وثبّت قلوبهم.
4 - ومن أسباب الطمأنينة .. الإكثار من ذكر الله كما قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28)
5 - ومن أسباب تحصيل الطمأنينة .. ورع الإنسان عن المشتبهات، ففي الحديث: {البر ما سكنت إليه النفس واطمئن إليه القلب} وفي الآخر {البر ما اطمئن إليه القلب وسكنت إليه النفس، والآثم ما حاك في صدرك وتردّد في قلبك وإن أفتاك الناس}.
... تكملة الدرس في المرفقات ...
¥