لهو!.
وإلى هذه الأقسام الثلاثة أشار ابن تيمية، رحمه الله، بقوله في تقسيم بديع لأجناس اللذة في "الاستقامة":
"وكل لذة أعقبت ألما في الدار الآخرة أو منعت لذة الآخرة فهي محرمة مثل لذات الكفار والفساق بعلوهم في الأرض وفسادهم مثل اللذة التي تحصل بالكفر والنفاق كلذة الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ولذة عقائدهم الفاسدة وعباداتهم المحرمة ولذة غلبهم للمؤمنين الصالحين وقتل النفوس بغير حقها والزنا والسرقة وشرب الخمر ولهذا أخبر الله أن لذاتهم إملاء ليزدادوا إثما وأنها مكر واستدراج مثل أكل الطعام الطيب الذي فيه سم .......
وأما اللذة التي لا تعقب لذة في دار القرار ولا ألما ولا تمنع لذة دار القرار فهذه لذة باطلة إذ لا منفعة فيها ولا مضرة وزمانها يسير ليس لتمتع النفس بها قدر وهي لا بد أن تشغل عما هو خير منها في الآخرة وإن لم تشغل عن أصل اللذة في الآخرة.
وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق" رواه مسلم وكقوله لعمر لما دخل عليه وعنده جواري يضربن بالدف فأسكتهن لدخوله وقال: "إن هذا رجل لا يحب الباطل" فإن هذا اللهو فيه لذة ولولا ذلك لما طلبته النفوس ولكن ما أعان على اللذة المقصودة من الجهاد والنكاح فهو حق وأما ما لم يعن على ذلك فهو باطل لا فائدة فيه ولكن إذا لم يكن فيه مضرة راجحة لم يحرم ولم ينه عنه ولكن قد يكون فعله مكروها لأنه يصد عن اللذة المطلوبة إذ لو اشتغل اللاهي حين لهوه بما ينفعه ويطلب له اللذة المقصودة لكان خيرا له والنفوس الضعيفة كنفوس الصبيان والنساء قد لا تشتغل إذا تركته بما هو خير منها لها بل قد تشتغل بما هو شر منه أو بما يكون التقرب إلى الله بتركه فيكون تمكينها من ذلك من باب الإحسان إليها والصدقة عليها كإطعامها وإسقائها فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن بعض أنواع اللهو من الحق. وكان الجواري الصغيرات يضربن بالدف عنده وكان صلى الله عليه وسلم يمكنهن من عمل هذا الباطل بحضرته إحسانا إليهن ورحمة بهن وكان هذا الأمر في حقه من الحق المستحب المأمور به وإن كان هو في حقهن من الباطل الذي لا يؤمر أحد سواهن به ........... كما كان مزاحه مع من يمزح معه من الأعراب والنساء والصبيان تطييبا لقلوبهم وتفريحا لهم مستحبا في حقه يثاب عليه وإن لم يكن أولئك مأمورين بالمزح معه ولا منهيين عن ذلك.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يبذل للنفوس من الأموال والمنافع ما يتألفها به على الحق المأمور ويكون المبذول مما يلتذ فيه الآخذ ويحبه لأن ذلك وسيلة إلى غيره ولا يفعل صلى الله عليه وسلم ذلك مع من لا يحتاج إلى ذلك كالمهاجرين والأنصار بل بذل لهم أنواعا أخر من الإحسان والمنافع في دينهم ودنياهم.
وعمر رضي الله عنه لا يحب هذا الباطل ولا يحب سماعه وليس هو مأمورا إذ ذاك من التأليف بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم حتى تصبر نفسه على سماعه فكان إعراض عمر عن الباطل كمالا في حقه وحال النبي صلى الله عليه و سلم أكمل". اهـ بتصرف
وهذا أصل جليل في هذا الباب الذي قد يتوهم فيه أن حال غير النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكمل من حاله، فذلك ما لا يتصور أبدا في علم أو عمل، في زهد أو عبادة ..... إلخ، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكمل الخلق علما وعملا فعلمه أنفع علم يتصور إدراكه وعمله أصح عمل يمكن إيقاعه.
فمن اللذة: لذة علمية هي أشرف اللذات، ومنها لذة وهمية فالنفوس تركن إلى من يعظمها ولو زورا ونفاقا!، ولذة محسوسة هي أخس أجناس اللذة لتعلقها الوثيق بالبدن الطيني الكثيف.
وأما بالنظر إلى حكمها فمنها كما تقدم: الباطل المحض ومنها الحق الذي يستعان به على تبعات التكليف، ومنها الباطل الذي تتوق إليه النفوس الضعيفة فلا تصبر عنه فلا يحسن في حق أصحاب النفوس الشريفة.
والشاهد أن الاستمتاع بالخلاق مظنة الخوض في الباطل فاقترنا في آية التوبة: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).
وإلى هذا المعنى اللطيف أشار ابن القيم، رحمه الله، بقوله:
"والمقصود أنه سبحانه جمع بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض بالباطل لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به وهو الخوض أو يقع في العمل بخلاف الحق والصواب وهو الاستمتاع بالخلاق فالأول البدع والثاني اتباع الهوى وهذان هما أصل كل شر وفتنة وبلاء وبهما كذبت الرسل وعصي الرب ودخلت النار وحلت العقوبات فالأول من جهة الشبهات والثاني من جهة الشهوات ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى فتنه هواه وصاحب دنيا أعجبته دنياه وكانوا يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون. فهذا يشبه المغضوب عليهم، (وهم: اليهود)، الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه وهذا يشبه الضالين، (وهم: النصارى)، الذين يعملون بغير علم.
وفي صفة الإمام أحمد رحمه الله: عن الدنيا ما كان أصبره وبالماضين ما كان أشبهه أتته البدع فنفاها والدنيا فأباها.
وهذه حال أئمة المتقين الذين وصفهم الله في كتابه بقوله: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)، فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات قال تعالى: (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، وقوله تعالى: (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار) ". اهـ
بتصرف يسير من "إعلام الموقعين"، (1/ 136، 137).
وذلك ما وقع فيه المكذبون لفساد قواهم العلمية اللاعبون لفساد قواهم العملية.
والله أعلى وأعلم.