تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ".

فجاء القصر الإضافي إمعانا في بيان وصف الدنيا، فليست الدنيا لعبا ولهوا فقط، وإنما فيها من الملائمات والمؤلمات شيء كثير، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، ففيها من المؤلمات الكونية الأمراض والأسقام التي تنزل بالعبد برسم العقوبة أو المثوبة، فلكلٍ حظه من الألم، وشتان مآل من كان الألم في حقه كرامة فبه يترقى في مراتب الديانة بتكفير الذنوب، فالمصائب الكونية من جملة ما تكفر به الخطايا، فذلك تنقلب المحنة في حقه منحة، فشتان حاله وحال من نزلت به المصيبة عقوبة زاجرة برسم الاستئصال إن كان ممن حقت عليه كلمة العذاب في الأولى استئصالا وفي الآخرة تخليدا في دار الآلام الأبدية فتلك أعظم مصيبة يرزأ بها العبد فهلاك في الدنيا وألم لا ينقطع في الآخرة سواء أكان من المحسوس، فـ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)، أم من المعقول فـ: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا)، فنداؤهم اللعن فذلك مما تعظم به المصيبة، فليس ثم من يهون ألم الحبس والعذاب كما في سجن الدنيا العام الذي حبس فيه المؤمنون، فـ: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"، وفي رواية عند أحمد رحمه الله: "الدنيا سجن المؤمن وسنته، فإذا فارق الدار فارق السجن والسنة"، فاستعير معنى الحبس في السجن المعهود لمعنى الحبس لنفس المؤمن في هذه الدار فهو فيها في سجن كبير، فالنفس قد حجزت عن كثير من الشهوات برسم الابتلاء فذلك نوع تقييد، فالمؤمن أبدا مسترق في قيد التكليف فليس كغيره ممن خلع ربقة العبودية والنفس قد نالها جملة من الآلام الكونية ابتلاء وتمحيصا، وليس ذلك إلا للمؤمن، فـ: "عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلهُ خَيْرٌ وَليْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لهُ"، فاستوفى السياق شطري القسمة العقلية على جهة المقابلة التي تزيد المعنى تقريرا، فإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، فذلك واجب وقته الذي امتثله، وهو شطر الإيمان الأول، وإن أصابته ضراء صبر، فذلك، أيضا، واجب وقته، وهو شطر الإيمان الثاني، فالإيمان شطران: شطر شكر وآخر صبر، فشكر يلائم المسرات، وصبر يلائم المضرات، فـ:

فجائع الدهر أنواع منوعة ******* وللزمان مسرات وأحزان

ونسبت الإصابة إلى السراء والضراء بما فيها من قوى اللذة أو الألم، فالمسرة تقتضي اللذة المعنوية أو الجسدية التي توجب الشكر، والمضرة تقتضي الألم المعنوي، وهو أقسى على النفوس الشريفة، أو الجسدي، وهو مما يهون إن كانت النفس قد سلمت من مرارة الألم المعنوي برسم: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، فذلك مما يوجب الصبر برسم الاحتساب لا الاضطرار، فالمضطر من البشر أو الحيوان يصبر على الأذى برسم الذلة والمهانة لا برسم العزة والكرامة فذلك صبر أهل الديانة، لا سيما في النوازل العامة التي تنزل بالمؤمنين فتزلزل النفوس زلزالا شديدا فلا يصبر إلا أصحاب النفوس الشريفة، فإن ترقت النفس في معارج الكمال، انقلب الصبر وهو مظنة الألم: رضا فهو مظنة اللذة، فلا يزال العبد يلتذ بما يرد عليه من قضاء الرب النافذ، وتلك معان ليس لكثير بل لأكثر من نطق بها بلسانه أو خطها ببنانه، ليس له منها إلا التصور، فإذا جاءت النازلة كذب الشاهد في الخارج ما استقر في الذهن ولو كان قائله مصدقا، فالتصديق العلمي شيء، والتصديق العملي شيء آخر فهو آية الإخلاص وذلك معنى عزيز ليس للنفس فيه حظ إلا من رحم الرب جل وعلا، والشاهد أن للصبر مرارة فبه تحبس النفس عن التسخط والجزع الذي تنفث فيه زفرات الهم والحزن فتطفئ، ولو مؤقتا!، ما قد توقد في النفس من نيران المصاب، فتسكن حرارتها ولكنها سرعان ما تعود أعظم مما كانت فلا يزداد الساخط إلا ألما كما لا يزداد الشارب من الماء المالح إلا عطشا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير