تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والشاهد أن نسبة الإصابة إلى السراء أو الضراء إنما يصح من جهة القوى المؤثرة التي طبعت عليها الأشياء فذلك خلق الله، جل وعلا، فقد طبعت النفوس على الفرح حال المسرة، والحزن حال المضرة، فتصح النسبة على قول من يثبت المجاز في لسان العرب، فذلك من قبيل المجاز العقلي الذي ينسب فيه الفعل إلى سببه، وإن لم يكن مستقلا بالتأثير ففيه قوة تؤثر وليس له الإرادة المطلقة، فليست الإرادة إلا لما له عقل، وليست الإرادة المطلقة إلا للرب، جل وعلا، الذي قدر الأشياء في الأزل فأعطاها خلقها الذي يلائمها وهداها إلى سلوك سبل السنن الكوني بما اقتضته الطبائع، فطبيعة المسرة كما تقدم، استثارة قوى الفرح فذلك تأويل حكمة الرب، جل وعلا، في دوران الأحكام كونية، أو شرعية، أو طبعية، مع عللها وجودا وعدما فمتى كانت مسرة كان الفرح الذي يلازمها، وهو مما يحسن إلجامه بلجام الشرع المحكم لئلا يخرج عن حد الاعتدال إلى حد الأشر والبطر، فيكون صاحبه من أهل: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)، فإذا ذاقوا رحمة، وهو من ذوق المعاني المعقولة فذلك مما يدل عليه معنى الذوق الكلي العام الثابت في الأذهان برسم الإطلاق، ولا يمنع ذلك من إرادة الذوق المحسوس فمن الرحمات ما هو محسوس كسائر اللذات فهي رحمات كونية امتن بها الرحمن، جل وعلا، على عباده برسم العموم فتشمل المؤمن والكافر برسم: (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا)، فدلالتها اشتراكية لفظية على المعنى المعقول في الذهن، والمعنى المحسوس في الخارج، ومع ذلك صح الجمع بينهما، وذلك مما قد يشهد لمن جوز دلالة المشترك على معنييه، فيدل على أحدهما حقيقة والآخر مجازا، عند من يثبت المجاز، ولا يمتنع الجمع بينهما إن احتمل السياق كليهما بل ذلك، كما تقدم في مواضع سابقة، مما يثري السياق بتوارد المعاني الصحيحة على ألفاظه، أو يقال بأن دلالتها اشتراكية معنوية فالمعنى الجامع وهو إدراك الطعم ووجدانه يصدق على المعقول في الذهن فتدركه قوى الحس الباطن فرحا أو حزنا، ويصدق، أيضا، على المحسوس في الخارج فتدركه قوى الحس الظاهر بما ركز فيها من قوى اللذة والألم، فيصدق على كليهما فلا يمتنع الجمع بينهما، أيضا، من هذا الوجه، فاللفظ يحتمل نوعي الإدراك، المعقول وهو الأعلى، والمحسوس وهو الأدنى، فإذا أذاق الرب، جل وعلا، فذلك من وصفه الفعلي المتجدد باعتبار آحاده فصح وروده في حيز الشرط المتجدد من هذا الوجه فيتجدد وقوع المشروط بتجدد وقوع الشرط، وجاء الفعل مضافا إلى ضمير الفاعلين مئنة من التعظيم، فذلك، سواء أكان ذوق رحمة فهو من وصف الجمال فضلا، أو ذوق عذاب فهو من وصف الجلال عدلا، فذلك مما لا تصح نسبته على جهة الاستقلال بالتكوين والتسيير إلا للرب الحميد المجيد جل وعلا، فهو الذي يسير الكون بسننه المحكم وذلك من معاني الربوبية التي يحسن في بيانها إيراد الفعل منسوبا إلى ضمير الجمع مئنة من تعظيم قدر ووصف الرب، جل وعلا، وجاء الرحمة منكرة مئنة من العموم لورودها في سياق شرط، فإذا أذاق الرب، جل وعلا، الناس أي رحمة: فرحوا بها، وذلك مما ينصرف إلى المعنى المذموم الذي سبقت الإشارة إليه، وهو محل الشاهد من هذه الآية، فينصرف إلى فرح البطر والأشر لقرينة التذييل بالقنوط حال وقوع المصيبة، فذلك من المقابلة التي تستوفي شطري القسمة العقلية في هذا الباب، وجاء الشرط في صدر الآية بـ: "إذا" فهي مئنة من كثرة الوقوع فذلك الأصل، فلا يزال الناس في رحمات متتابعة من الرب، جل وعلا، كونية كانت أو شرعية، وأعظمها رحمة النبوة التي تواترت في الأمم السابقة واتصل خبرها وإسنادها في الأمة الخاتمة ففشا ذكرها بين البشر فذلك من عموم الحجة الرسالية فرسمها الرحمة العالمية، فـ: (مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، ثم جاء الشرط في الشطر الثاني بـ: "إن" فهي مئنة من ندرة الوقوع فذلك الاستثناء، فالأصل هو العافية، والاستثناء هو الابتلاء العارض الذي سرعان ما يزول ويبقى لصاحبه الأجر إن صبر والإثم إن سخط، فـ: (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)، وذلك، أيضا، مئنة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير