تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فإما هذه الصورة المثالية الجوفاء التي لا يصلح بها دين أو دنيا، فهي محض تحليق في سماء الخيال، والنبوات تتسم بالواقعية فهي وإن كانت قد جاءت لتغير طرائق البشر في الفكر والإرادة والقول والعمل إلا أنها لا تطلب منهم الانخلاع من طبائعهم البشرية ليصيروا ملائكة، فذلك من التكليف بما لا يطاق، فملكات البشر لا تقوى على ذلك، وإن قوي آحاد منهم على الصبر أياما بل شهورا على ألم الجوع والعطش، فلا يقدر عليه عامتهم، وإن قدر آحادهم على ترك لذة النكاح، والسياحة في الأرض فلا يقدر عليه عامتهم، وذلك من رحمة الرب، جل وعلا، بهم، فبدون تلك الشهوات التي ركزت في نفوسهم لن تعمر الأرض بل سيفنى النوع، كما تقدم، فمن يقيم خلافة الابتلاء الرباني، بإقامة الحكم الشرعي الذي جاءت به النبوات إن لم يعد في الأض خليفة فقد فني نوعه؟!.

وإما في المقابل: مادية فجة لا تؤمن إلا بالمحسوس بل تقدسه فهو الرب المعبود الذي تنفعل له مدارك البشر، فإرادتهم له تبع كما الحيوان الذي لا بغية له إلا قضاء وطره وإن حصل له الهلاك عقيبه فلا عقل له لينظر في المآل فمنتهى سؤله تحصيل لذاته في الحال!.

والشاهد أنه في آية الأنفال علق الحكم بالتغيير في السنة الربانية بالتبديل في السنة الشرعية، فحصل التبديل الشرعي من البشر ولازمه التبديل الكوني من رب البشر، جل وعلا، فلا يخرج الثمر أو يخرج قبل أوانه فيفسد بما يرد عليه من الآفات، كما هي حال الزروع في بعض بلاد المسلمين الآن فقد تفتحت الزهور قبل أوانها لارتفاع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق، فلم يحدث ذلك من لدن بدأ رصد درجات الحرارة سنة 1850 م، فتبدلت السنة الكونية وتفتحت الأزهار قبل أوانها، ثم لا يلبث البرد أن يقضي عليها، فغير الرب، جل وعلا، لما غير البشر، ولو عادوا إلى منهاجه لعادت السنة الكونية، فعبثهم الشرعي بمخالفة الأحكام، وعبثهم الكوني بالخروج عن سنن الكون الجارية بما أوقعوه من صور إفساد في الأرض، فضلا عن إفسادهم في الشرع، كل ذلك مما اقتضى لزوما شرعيا وعقليا تبدل السنن وفساد الأحوال وقلة الثمار والأقوات وانتشار الأمراض والأوبئة التي لم تكن في الأسلاف ...... إلخ من العقوبات الكونية النافذة.

والشاهد أن كل ما أوتيتموه، والخطاب خاص باعتبار لفظه بالكفار لقرينة نزول الآيات في مكة والغالب على أهلها آنذاك الكفر، فضلا عن قرينة السياق فقبلها مباشرة قوله تعالى: (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) وهو يختص بالكفار بداهة ثم حصل الالتفات، فبه نوع تنبيه يستثير انتباه المخاطب لا سيما إن كان غافلا ولا غفلة أعظم من غفلة الكفر، والخطاب من وجه آخر: عام على ما اطرد في التنزيل، فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا: فصدر الخبر بالفاء لتضمن الموصول معنى الشرطية، فالعموم في كل حاصل، وذلك وجه شبه سوغ إجراء الموصول مجرى الشرط، والعموم من جهة أخرى يعم كل ما يؤتاه الإنسان فدلالة: "ما" هنا: تعم الأعيان والأحوال، فما أوتيتم من النساء أو الذراري أو الأموال أو الزروع ...... إلخ فتلك أعيان منها ما يعقل ومنها ما لا يعقل، فدلالة: "ما" هنا تعم النوعين، وما أوتيتم من أوصاف الذكاء والصحة فتلك أحوال تقوم بالعبد، فتدخل في عموم "ما" أيضا، فذلك من قبيل دلالتها على الوصف في قوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)، فالمراد الوصف الذي يستطيبه الإنسان لا أعيان المنكوحات من النساء، وهذا العموم يزيد المعنى تقريرا في الذهن فيستوفي سائر أجناس النعيم الدنيوي معقولا كان أو محسوسا، فهو متاع الحياة الدنيا، وذلك مما يستوي فيه المؤمن والكافر، كما ذكر البغوي، رحمه الله، ثم مآل المؤمن إلى: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ)، فذلك من التعظيم للجزاء الخالد فإبهام "ما" هنا مئنة من التعظيم لشأنه فعظمه من عظم من هو عنده، فهو: (خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ): فتلك من صور التفضيل المنزوع الدلالة، فلا خير في متاع الدنيا إذا قورن به أو هو تنزل مع المخالف الذي يظن الخيرية في قطف ثمار الدنيا العاجلة ولو بإهدار نعيم الآخرة الباقية، واختصاص ذلك بالمؤمنين الذين أطنب في وصفهم فذلك مما يحسن في معرض الثناء على أصحاب الطريقة المثلى: تعريض بغيرهم، بدليل الخطاب أو مفهومه، فلا حظ فيه لمن قام به ضد وصفهم من الكفر وعدم التوكل على الرب جل وعلا.

والإخبار عنه بأنه من متاع الحياة الموصوفة بأنها: "الدنيا": إمعان في تقرير معنى الخيرية المطلقة لنعيم دار المقامة الأبدية.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير