ثم جاء الخبر الثالث: (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)، ففيه التحلية بوصف الحق بعد التخلية من وصف الباطل، فحصل التعظيم بالتنكير، وحصل التعظيم بابتداء غايته من: حكيم فآي كتابه قد بلغت ذروة الإحكام لفظا ومعنى، حميد، فذلك وصف جماله الجامع، فيحمد على نعمة الوحي والنبوة، فقد جاءت بالآيات الدالة على معادن الخير علما وعملا، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.
والشاهد أن التعريف في الحديث قد جاء على جهة المبالغة، ففيه قصر إضافي بتعريف الجزأين إمعانا في تقرير المعنى، فـ: "المسلم" حقا، فذلك مئنة من كمال الإسلام الواجب، وجاء الاسم مجملا، فـ: "أل"، كما تقدم، جنسية لبيان الماهية، والجنس مظنة الشيوع ففيه نوع إجمال أبان عنه الخبر: "من سلم المسلمون ........... ": فحصل التشويق بإيراد المجمل ثم حصل البيان بإيراد الخبر: "من سلم المسلمون ............ " فجاء عاما، فالموصول من صور العموم القياسي، وحسن التعريف بالموصول تعليقا للحكم على المعنى الذي اشتقت منه الصلة، فالإسلام مئنة من السلامة، وقد يقال بأن في السياق نوع استعارة لو حملت السلامة كالصحة على المعنى المحسوس، فتستعار صحة الأجساد لصحة الأوصاف والأحوال، فالسلامة هنا تنصرف إلى السلامة المعنوية، وإن لم يخل السياق من دلالة على السلامة المادية فيسلم المسلمون من أذى لسانه قولا فذلك من الأذى المعقول، ومن أذى يده فعلا فذلك من الأذى المحسوس، وذلك أمر عزيز في الأزمان المتأخرة لا سيما في ممالك الجور التي يتوصل فيها الشرط والجند إلى الرعية بصور من الإيذاء في الدين والبدن بالقول والفعل، نرى منها صورا تدل على حاجة الناس في زماننا إلى تجديد علوم وأعمال النبوة الخاتمة ليرتفع هذا الشؤم العام، وقد خرج الكلام في السياق مخرج الغالب، فـ: المسلم: من سلم المسلمون، فلا يدل ذلك بمفهومه على جواز إيصال الأذى إلى الكفار بلا وجه حق، فلا يجوز إيذاء الكافر المعاهد أو المستأمن بخلاف من نقض عهده بالطعن في الدين، أو كان حربيا لا عهد له، وخرج مخرج الغالب، أيضا، في التذييل باللسان واليد، فلا يدل، ذلك، بداهة، على جواز إيصال الأذى إليهم بالعين غمزا أو الرجل ركلا ..... إلخ.
والعموم كسائر العمومات المخصوصة، فيخص بإيصال الأذى إليهم بوجه حق باستيفاء حد أو تعزير فلا تمدح عندئذ سلامتهم مما تعلق بهم من عقوبات، فالتسامح لا يكون في حقوق الله، جل وعلا، أو حقوق البشر التي لم يعف أصحابها، والتسامح، لا يكون، كما هي الحال في زماننا، بالتساهل في صيانة جناب الدين، بزجر المارقين من الكفار الأصليين والزنادقة والمرتدين والعلمانيين وسائر أعداء النبوات. فلا تسامح في زجرهم فتلك ذريعة إلى حفظ الضروري الأول من ضرورات الشريعة الخمس: ضرورة الدين فهو أعظم ما يصان ولو بذلت الدماء والأموال.
والشاهد أن حدود الإسلام قد تنوعت فمنها:
الحد بالأركان كما تقدم في حديث جبريل عليه السلام.
والحد بالأعمال كما في حديث: "أي الإسلام خير، قال: أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"، فذلك من تعريف العام بذكر بعض أفراده تنويها بها، فهي مئنة من رسوخ المعنى، فلن يبلغ المسلم درجة الكمال المستحب إلا بعد بلوغ درجة الكمال الواجب من باب أولى، فتكون قدمه قد رسخت في الديانة بالمواظبة على أداء الواجبات فيتطلع إلى الزيادة من النوافل، فلا تشبع نفسه، فـ: "منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدنيا لا يشبع منها"، فطالب العلم إن كان مسددا فما طلبه إلا ليعمل فلا يشبع من العلم تحصيلا ولا يشبع من العمل تأويلا لما علم.
والحد بالقصر على جهة المبالغة تقريرا لوصف بعينه كما في حديث: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
والحد بالأثر: "فقل: آمنت بالله، ثم استقم" فأثره القولي: "آمنت بالله"، وأثره الفعلي: "استقم" وحسن إطلاقه فيعم كل صور الاستقامة الباطنة والظاهرة، القولية والعملية. وذلك من جوامع كله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد أبان عن المسلك الرشيد في دين التوحيد بشطري القول والعمل، فالإيمان، كما تقدم، قول وعمل، فتصريح بالإيمان وتصديق بالاستقامة على صراط الشريعة.
والحد بالأثر المتعدي إلى غيره: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِم لا يظلمه ولا يسلمه".
فأثبت الأخوة ثم ذكر لازمها من انتفاء ظلمه إو إسلامه إلى غيره، فذلك وجه بيان لمجمل الأخوة فحسن الفصل فلا عاطف للاتصال الوثيق بين الملزوم ولازمه المبين له.
ويقال أيضا في الشطر الثاني من الحديث:
"والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه":
فالحد قد جاء على وزان ما تقدم من القصر الإضافي إمعانا في تقرير المعنى، فضلا عن الجناس الاشتقاقي، والتعريف بالموصول مئنة من العموم، ودلالة الماضي على حصول المعنى ورسوخه، وعموم: "ما"، فهجر كل ما نهي عنه بالقوة، وإن لم يحصل له ذلك بالفعل، فلا ينفك بشر عن خطأ علمي أو عملي إلا من عصم الرب، جل وعلا، من صفوة الخلق فـ: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ".
وصيغة المفاعلة وإن لم يكن ثم شريك في الفعل مئنة من رسوخ المعنى، فصاحبه قد تكلف أسباب هجران المناهي.
فتلك هجرة متصلة بخلاف الهجرة الاصطلاحية الأولى التي انقطعت بالفتح، فـ: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية".
والله أعلى وأعلم.
¥