تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إبراهيم!.»، ثم يأخذ كيس نقوده من جيبه، ويتناول منه قطعة، يقبضها إبراهيم، وينطلق بها مرحاً خفيفاً، كأنه طيف من الأطياف. على مثل تلك المقارضات والمساجلات، وعلى مثل هذه المحاولة الصبيانية لقول الشعر، التي كانت تروق الجد، بما فيها من تسلية لشيخوخته، والتي كانت تستهوي الحفيد، بما فيها من إشباع لفطرة شعرية كامنة فيه، نشأ إبراهيم أول ما نشأ. وفي هذه الأثناء أيضاً، كان إبراهيم يبعث بالعجب والطرب معاً في نفس معلمه، إذ يقف أمامه وقفته الخاصة كلما قام لينشد الشعر في درس الاستظهار، سواء أكان ذلك الشعر عربياً أم تركياً، فيلقيه إلقاء موسيقياً جميلاً، ينبعث له طرب المعلم، فيشرع، وهو المعلم الوقور، ينقر بأصابعه على المكتب نقرات إيقاعية، تساير ذلك الإلقاء الرائع الذي كان يزيد في روعته صوت خلاب آسر، عُرف له في مواقفه الخطابية فيما يلي: كانت «المدرسة الرشادية الغربية» حيث تلقّى إبراهيم دروسه الابتدائية تنهج في تعليم اللغة العربية نهجاً حديثاً لم يكن مألوفاً في مدارس نابلس في العهد التركي. وذلك بفضل بعض المدرسين النابلسيين الذين تخرجوا في الأزهر، وتأثروا في مصر بالحركة الشعرية والأدبية التي كان يرفع لواءها شوقي وحافظ وغيرهما من شعراء مصر وأدبائها. هؤلاء المدرسون، أشاعوا في المدرسة روح الشعر والأدب الحديثة، وأسمعوا الطلاب للمرة الأولى في حياتهم الدراسية قصائد شوقي وحافظ ومطران وغيرهم، وفتحوا أذهانهم على أسلوب إنشائي حديث، فيه رونق، وفيه حياة، يختلف اختلافاً كبيراً عن ذلك الأسلوب القديم الذي كان ينتهج في المدارس في نابلس، والذي لم يكن ليخرج عن كونه أسلوباً تقليدياً عقيماً، لا تأثير له، ولا غناء فيه. من هؤلاء المدرسين المجددين، المرحوم الشيخ إبراهيم أبو الهدى الخماش، وكان جريئاً صريحاً، ذا نزعة عربية صميمة، ومبادئ وطنية قومية، يجهر بها ويبثها في النفوس عن طريق خطبه وتدريسه ومجالسه، وذلك في عهد، كان الجهر فيه بمثل تلك المبادئ، يوفي بأهله على المهالك، وقد التحق في ما بعد بالثورة العربية، تحت لواء المغفور له الملك فيصل. ومن هؤلاء المدرسين أيضاً، صاحب الفضيلة، الشيخ فهمي أفندي هاشم قاضي قضاة شرقي الأردن في وقت مضى. أمضى إبراهيم أربع سنوات في هذه المدرسة، هي سنوات الحرب العظمى، وانتقل على أثر الاحتلال الإنجليزي مباشرة، إلى مدرسة المطران في القدس، وله من العمر أربعة عشر عاماً. وهنا نعرض لشخصية تَعرّف بها إبراهيم في القدس، فكان لها انطباع في نفسه في ذلك الحين، تلك هي شخصية المرحوم الأستاذ نخلة زريق، وكان هذا متأثراً باليازجيين، واسع الاطلاع على الآداب الإسلامية العربية، شديد التعصب للغة، شديد الوطأة على كل عربي متفرنج يتهاون في لغته أو عربيته، وكان ذا شخصية قومية، لابد من أن تترك في أعماق من تعرف بها، أثراً منها. كان المرحوم نخلة زريق مدرساً للغة العربية في «الكلية الإنكليزية» في القدس: فتح عيون طلابه على كنوز الشعر العربي، وحبّبها إليهم. ولقد كان إبراهيم، وهو في مدرسة «المطران» يأخذ من شقيقه أحمد - وكان طالباً في الكلية الإنكليزية - منتخبات الشعر القديم والحديث، مما يختاره المرحوم نخلة زريق لطلابه، فيستظهرها جميعاً، وعن طريق أحمد، تعرف إبراهيم بذلك المدرس الأديب، فكانا يزورانه معاً في بيته الذي كان محجّة العلماء والأدباء في القدس، ويصغي إليه وهو يتدفق في حديثه عن الأدب والشعر، والعرب والعروبة .. مما كان له شأن في إيقاظ وعي إبراهيم على مؤثرات أدبية وقومية أخرى. وإذ أتم أحمد دراسته في الكلية الإنكليزية، وتوجه إلى الجامعة الاميركية في بيروت، ظلت تلك الأسباب موصولة بين إبراهيم وبين المرحوم نخلة زريق، ولكن لمدة قصيرة، إذ توفي الثاني سنة 1920.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير