تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

القصيدة من قبل مجلة «التمدن» في الأرجنتين، وأُهديت إليه المجلة سنة كاملة، وكان مما علقته عليها قولها: «ولو كان كل ما ينظمه شعراؤنا في هذا الباب من هذا النوع، لكان الشعر العربي في درجة عالية من القوة والفتوة» ونقلتها جرائد ومجلات أخرى، وكلها تُطري الشاعر، وتشجعه. أما هذه القصيدة، فهي وإن تكن قد قيلت في موضوع الممرضات، غير أن قسماً كبيراً منها، كان في وصف الحمام، تلك الطيور الوديعة، التي كان يُغرم بها إبراهيم، ويُعنى باقتنائها وتربيتها، أيام صباه، وتحدثني أمي، كيف كان وهو طفل ينجذب إلى هذا الطائر انجذاباً خاصاً، ويتأمله محوّماً رائحاً غادياً، وكيف كان إبراهيم إذا وقف كل صباح ليغتسل على حوض الماء الذي يقوم في صحن الدار، أطال هناك الوقوف مستغرقاً في تأمله لأسراب الحمام، وقد حفت بالماء تغتسل وتعبث بريشها، فلا يزال على وقفته تلك، إلى أن ينبهه والده إلى إبطائه على المدرسة. وهكذا يمضي إبراهيم في طريق النظم، وكانت نشوة توفيقه في قصيدة «ملائكة الرحمة»، قد فعمته بالزهو والخيلاء كما يقول، إلى أن تلقاه درساً أليماً، أوحى إليه يومئذٍ بقصيدة عنوانها «عارضي نوحي بسجع» وفيها تنعكس حالته النفسية الثائرة، التي ترجع بأسبابها إلى الدرس الأليم الذي تلقاه. يقول إبراهيم بهذا الصدد: «كنت قد توفقت في قصيدة «ملائكة الرحمة»، وسمعت كثيراً من كلمات الإعجاب بها، فخُيّل إلي أن كل قصائدي في المستقبل، ستكون مثلها مدعاة للإعجاب!؟ وأخذت في نظم قصيدة غزلية، وأنا مفعم بزهوي وخيلائي، وأخذت أغوص على المعاني، وأتفنن بالألفاظ!!. وكان يشرف على نشأتي الأدبية اثنان من الزبانية هما أخي أحمد، وسعيد تقي الدين، فهرعت إليهما لأسمع إعجابهما وأنتشي به، وتلوت عليهما القصيدة، وظفرت بالإعجاب! … وتركاني، وعادا إلي بعد قليل. قال أحمد: «أخي أنا لا أفهم القصيدة جيداً حين تتلى علي، أريد أن أقرأها بنفسي»، فناولته القصيدة، ودنا رأس سعيد من رأس أحمد، وشرعا في قراءة صامتة، ثم كانت نظرات تبادلاها، أحسست منها بمؤامرة .. وإذا بالقصيدة تُمزّق، وإذا بها تُنسف في الهواء. قال أحمد: «هذه قصيدة سخيفة المعنى، ركيكة المبنى»، قال سعيد: «ليس من الضروري أن تنظم كل يوم قصيدة»! قال أحمد: «كلها تكلف وحذلقة!». قال سعيد ليهوّن أثر الصدمة: «لا بأس بها، لكنها لا شيء بالنسبة إلى قصيدة ملائكة الرحمة، اعمل كل سنة قصيدة مثل ملائكة الرحمة، وكفاك» .. قال أحمد… وقال سعيد .. ولكن كان رأسي بين أقوالهما كأنه في دوار، ولم أتمالك عن البكاء، وتركتهما حانقاً ناقماً، وبعد ساعة كان سعيد فوق رأسي - وأنا لا أدري - يتلو أثر تلك الصدمة في قصيدتي: «عارضي نوحي بسجع». فاختطفها، وعاد إلي بها في الصباح، وعليها الجملة الآتية بقلم عمه الشيخ أمين تقي الدين: «روح شاعرة، ليتها في غير معاني اليأس، فالشباب واليأس لا يلتقيان، أما النظم، فيبشر بمستقبل فيه مجيد». «قسوة وعنف، أفاداني أن أكون مع نفسي بعدئذٍ قاسياً عنيفاً، أمزق القصيدة حين أشعر بالتكلف يدب فيها، وأن أقف موقف الناقد الهدام، أحطم شعري بيدي، أو أبديه وأنا راض عنه، ضامن رضى قارئه أو سامعه. أحمد وسعيد ليسا من الزبانية، إنهما ملكان كريمان!. جزاهما الله عني خيراً». ونعود إلى ما بدأنا به من الحديث عن أيام إبراهيم في بيروت فنقول: مضت عليه سنوات ثلاث في الجامعة، بلغ في نهايتها الثانية والعشرين، وقد قعد به المرض خلالها عن إتمام دراسته في الصف الأول العلمي، فانتقل إلى نابلس، ثم عاد في العام الذي تلا ذلك إلى الجامعة. وكان في هذه السنوات الثلاث لا ينقطع عن قول الشعر، وفي سنة 1925 نشرت له جريدة «الشورى» في مصر نشيداً وطنياً لتحية المجاهد الأمير عبدالكريم الريفي. فلما اطلع الشاعر الأستاذ خير الدين الزركلي على النشيد قال: «إن صدق ظني، فإن صاحب هذا النشيد سيكون شاعر فلسطين». ومن عجب، أن يظل قلب إبراهيم خالياً من المرأة حتى ذلك الحين، ولقد كان أصدقاؤه في الجامعة يعجبون لذلك ويقولون له على سبيل المزاح: «أنت شاعر ولكن بلا شعور، أين وحي المرأة في شعرك؟». في نهاية تلك السنوات الثلاث، بلغ إبراهيم الثانية والعشرين كما ذكرنا من قبل، وهنا مس الحب قلبه .. ولكن هل كان مس ذلك الحب رفيقاً رحيماً؟ كلا، بل كان مساً عنيفاً

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير