تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ملهباً أشعل روحه وأيقظ حسه، وأرهف نفسه. ففي سنة 1926، طلعت في الجامعة في بيروت، فتنة تمثلت في صورة فتاة فلسطينية طالبة هناك، فأحيت قلوباً وسحقت قلوباً… وتورط إبراهيم، ودخل المعركة، وابتلى حسنات وسيئات، أما السيئات، فليس هذا بموضع تدوينها، وأما الحسنات، فتنحصر في الطريق الأدبي الجديد الذي نهجه، والاستعداد الكبير للسير في هذا الطريق. صار قوي الملاحظة، حاضر العاطفة، متوفز الأعصاب، صار كثير المطالعة، صياداً للمعاني، بسيط العبارات، سهل الفهم، مصيباً. تلك هي حسنات ذلك الحب، على حد تعبيره. ونظم في فتاته قصيدته «في المكتبة» ونشرت القصيدة في إحدى الصحف في بيروت، فنطقت بألسنة الكثيرين من الطلاب والأساتذة أيضاً .. ومنذ ذلك الحين، أخذ إبراهيم يضرب على قيثار الغزل، فيطرب سُمّاعه، ويعجب قراءه. وقد أحبته فتاته بمقدار ما أحبها، ثم ضرب الدهر بينهما، فكانت نهاية حبه مأساة، خلّفت في قلب الشاعر جرحاً، كان يندمل حيناً، وتنكأه الذكرى حيناً آخر، فينعكس ذلك كله في شعره، كما تنعكس صورة على صفحة المرآة المصقولة. نكتفي بهذا القدر من قصة ذلك الحب، الذي كان له أكبر الأثر في إرهاف حسه، والسمو بشاعريته إلى سماء الشعر الصادق، الذي ينبثق من ذات النفس، وينبعث من أعماق الروح. ونلتفت الآن إلى بعض الأجواء الأخرى، التي كانت تحيط بإبراهيم في أعوامه التي قضاها طالباً في الجامعة. لقد احتضنت إبراهيم في الجامعة وخارجها، بيئة شعرية أدبية لم تكن لتحتضنه لو لم يكن في بيروت. أما في الجامعة، فقد كان هناك رعيل من أقرانه الطلاب، امتاز بصبغته الشعرية، وتعاطيه لقول الشعر الجزل. من ذلك الرعيل كان عمر فروخ «صريع الغواني» وحافظ جميل «أبوالنواس» ووجيه بارودي «ديك الجن» وإبراهيم «العباس بن الأحنف». وكان تجاوب الذوق والمشرب قد وصل بين هؤلاء بأسباب المحبة والأخوة. وكانت تجري بين حافظ ووجيه وإبراهيم، مساجلات شعرية عديدة، تناقلها الطلاب وأحبوها، غير أن هذه المساجلات لم تكن لتخرج عما توحي به طبيعة الشباب الملتهب، المندفع وراء الحياة .. هذا في الجامعة، وأما خارجها، فقد كانت هنالك مجالس الأدب العالي والشعر الرفيع، وكلها تفتح لإبراهيم صدرها، وتوليه من عنايتها واهتمامها، وتعقد بينه وبين أصحابها صلة الود. وحسبي أن أذكر من أصحاب تلك المجالس الأدبية الرفيعة المرحوم الشيخ أمين تقي الدين والمرحوم الأستاذ جبر ضومط، والشاعر بشارة الخوري «الأخطل الصغير». أصبح إبراهيم شاعر الجامعة، كما لقبته صحف بيروت، ولم يقتصر في ذلك العهد على الشعر الغزلي فحسب، بل كانت أغاريده الوطنية الفياضة بالعواطف الصادقة، والإيمان الوطني القوي، تسير جنباً إلى جنب مع أغاريده الغزلية، وهذان الوتران كانا من الأوتار التي امتاز إبراهيم بالضرب عليها. وفي سنة 1929، نال شهادته من الجامعة، ليخوض بحر الحياة العملية المزبد المتلاطم. معلم، معلم، معلم، هذه هي الكلمة التي كان يسمعها تتردد على شفاه الكثيرين من الطلاب الخريجين، يوم توزيع الشهادات، فيقول لنفسه: «أبعد هذا العناء والكد، يختار هؤلاء التعليم مهنة؟. ألا ساء ما يفعلون، ما أقصر مدى طموحهم». أما هو، فقد كانت المفاوضات جارية بينه وبين إحدى دور الصحافة في مصر، وتوشك أن تنتهي على أحسن ما يتمناه، فهذه مهنة تلائم ذوقه على الأقل، وتسير مع اختصاصه، سيكون محرراً في مجلة كبرى في القاهرة، وناهيك بالقاهرة من مدينة فن وأدب وجمال، وأي شيء تصبو إليه نفس الأديب الناشئ الطموح، ولا يجده في القاهرة؟ المكتبة الكبرى، الأزهر، الصحف، الشعراء، الكتاب، «يا مصر، لله مصر!.» صحافي، صحافي .. هذا ما كان إبراهيم يحدث به نفسه في أيامه الأخيرة في الجامعة. من المنصة التي منح عليها «البكالوريا»، مشى إبراهيم إلى سرير المستشفى، وأراني حتى الآن، لم أُشر إلى أنه كان يشكو ألماً في معدته منذ أيام التلمذة في مدرسة المطران في القدس، وكثيراً ما أقعده ذلك عن مواصلة التحصيل، إلى أن يُشفى فيعود إليها، وكثيراً ما حمله بعد ذلك، على الاستقالة من وظائفه التي تَقلّب فيها. أبلّ إبراهيم من مرضه، وكان والده إلى جانبه في هذه الآونة، إذ قدم بيروت ليشهد حفلة الجامعة، ثم توجه الاثنان إلى مصر ليستشيرا الأطباء هناك، وليبحث إبراهيم في شغله الصحافي. وفي

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير