تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أن يناقش المرء في شيء لم يفهمه، هذا وإن العرب، مسلمين ومسيحيين، يدينون بالقومية، وهذا مشروع غايته القضاء على اللغة العربية، وهي عندنا كل ما بقي من ذلك التراث الطويل العريض الذي اجتمع لنا من الفتوحات والحضارات والعلوم والآداب والفنون .. فما من عاقل اليوم، يعرف قدر نفسه ويعتز بعربيته، يرضى عن العبث بهذا التراث الباقي، والقضاء عليه بيده .. بهذه الصراحة التي عُرفت لإبراهيم في كل موقف ذي خطر، هُزمت تلك الفئة التي اعترفت على أثر ذلك، بأن إبراهيم يحتاج إلى جلسات أخرى، لتُزعزع أركان عقيدته في لغته .. وأستغفر الله، وحاشا لإبراهيم .. ولشد ما لقي من صعوبات أثناء عمله، إذ كانت فلسطين خلال السنوات الأربع التي خدم فيها في الإذاعة، في ظرف دقيق جداً، ففي السنوات الثلاث الأولى، كانت الثورة في فلسطين قائمة على ساقها، وفي السنة الرابعة، كانت الحرب العالمية الأخيرة. أما الصعوبات التي لقيها في عمله أثناء الثورة، فتنحصر في ذلك الشغب الذي كان يدور حوله من قبل بعض الجهات اليهودية، ووقوفها له بالمرصاد في كل ما يذيعه من أحاديث، أو ما يذيعه غيره من المحدّثين العرب، فكانت تلك الجهات اليهودية تُخرّج كل ما يقال تخريجاً سياسياً، وتُشكّل من القصة ذات اللغة البسيطة، والوضع المحكم، شعوباً ودولاً، وحكومات وانتدابات .. ولم تكن لترى في الأحاديث الأخلاقية، إلا تحريضاً تحت قناع ديني .. وأما الدعاية فقد كانت في رأيها مبثوثة في الموضوعات التاريخية!. زد على ذلك، قول تلك الجهات اليهودية بأن الأحاديث النبوية، والأمثال المشهورة التي تقدم في الإذاعة، فيها الخطر كل الخطر!. إذ يطلب فيها من الأمهات أن يُنشّئوا أطفالهم بعضلات قوية، ومنشأ الخطر على زعمها هو أن تلك التنشئة القوية، إنما يُقصد من ورائها المقدرة في المستقبل على المقاومة. وعن الطريق الأقصر، فالبرنامج العربي الذي كان يشرف عليه إبراهيم مُسخَّر للتحريض .. كما كانت تقول الصحف اليهودية. وهكذا كانت تُوضع في الميزان جلّ أحاديث القسم العربي في الإذاعة، فيُناقَش إبراهيم فيها، ويُحاسب عليها، ولكنه كان يعرف كيف يقف أمام ذلك كله. وانتهت الثورة، وقامت الحرب العالمية الثانية، فكانت الرقابة على الصحف والنشر والإذاعة. ومن قبل بعض المشرفين عليها يومئذٍ، قامت الدعاية السيئة وقام التحريض ضد إبراهيم. وكانت قصة «عقد اللؤلؤ» أو «جزاء الأمانة» التي اقتبسها إبراهيم من كتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ، وقدّمها في المذياع في أحد برامج الأطفال، فأخذ الرقيب وعصبته تلك القصة، وخرّجوها تخريجاً يكفل لهم استفزاز المستعمر .. فإذا بتلك القصة التي تشيد بالأمانة والوفاء تُشهر سلاحاً في وجه إبراهيم او بالأحرى في ظهره، من قبل من لا يعرف قيمة لمعنى الأمانة المقدس. تكاتفت جموع الشر على إبراهيم من هنا وهناك، فأُقيل من عمله في الأول من أكتوبر سنة 1940. وإذا كان بوسع أحد من الناس، أن يبيع ضميره، ويضرب بمبدأه وعقيدته عرض الحائط، فيظل هانئاً بعمله، قرير العين، فما كان بوسع إبراهيم أن يفعل ذلك، وهو الأبي النفس، العيوف للاستخذاء والذل، وهو الذي كان يتحول عن الحظ السعيد يأتيه وفيه جرح لكبريائه وكرامته، أو خلاف لعقيدته، كما يتحول المؤمن الصادق عن وسوسة الشيطان. اشمأزت نفس إبراهيم، وعافت البقاء بين قوم لا خلاق لهم .. فآثر الرحيل عن وطنه الذي تفانى في حبه، وأذاب روحه في مناجاته، وعزم على الرحيل إلى العراق، بلد العروبة والعزة. وفي مساء اليوم الذي أقيل فيه إبراهيم من عمله، خفّ صديقه أكرم بك الركابي إلى السيد طالب مشتاق، قنصل العراق في القدس يومئذٍ، وأطلعه على ما جرى لإبراهيم، وفي محادثة تلفونية من قبل السيد طالب، الصديق المحب، سُجّل اسم إبراهيم في وزارة المعارف في بغداد ليزاول مهنة التعليم في أحد معاهد العلم هناك، ولقد كان ذلك بسرعة، ودون أخذ وردّ، إذ كان إبراهيم معروفاً لدى الأوساط الأدبية الرفيعة في العراق. ولقد لاقى من والده معارضة شديدة بشأن ذلك الرحيل، وإلحاحاً عليه بالبقاء عنده في نابلس، ولكن إبراهيم، على بره بوالده براً يفوق الوصف، وعلى تعلقه العجيب بوالديه وإخوته - ولقد كان هذا البرّ وهذا التعلق من خلائق إبراهيم الممتازة - سافر إلى العراق وهو عازم عزماً أكيداً على عدم العودة إلى فلسطين مدى الحياة!. ومن هؤلاء الذين يصدق فيهم قول يزيد بن المهلب: «هم أهل العراق، أهل السبق والسباق، ومكارم الأخلاق» وجد إبراهيم على أبواب بغداد من ينتظره من الأصحاب العراقيين، وفي بيت السيد محمد علي مصطفى، الأستاذ في دار المعلمين العليا، نزل إبراهيم وأهله معززين مكرمين، إذ لم يكن قد تهيأ بعد، وفي دار المعلمين الريفية في الرستمية، باشر عمله. كان للمعاملة السيئة التي لقيها إبراهيم في وطنه وبين قومه تأثير كبير على بنيته النحيلة، فلم تكن تلك البنية لتحتمل كل هذه الآلام النفسية التي كابدها إبراهيم خلال شهور، وهو الرقيق الشعور المرهف الإحساس إلى حد يكاد يكون مرضاً، فلم يكد يمضي شهران على إقامته في العراق حتى وقع فريسة العلة والسقم، مما حمله إلى العودة إلى نابلس قبل انتهاء الفصل الدراسي الثاني. ونهكت الأسقام إبراهيم، فنقل إلى المستشفى الفرنسي في القدس، وبعد أيام قليلة، وفي مساء الجمعة، الثاني من شهر مايو سنة 1941 أسند إبراهيم رأسه إلى صدر أمه، وقد نزف دمه، وخارت قواه، وهناك أسلم روحه الطاهرة إلى بارئه، واستراح استراحة الأبد. كان لإبراهيم - رحمه الله - مصحف صغير، لا يخلو منه جيبه، تبركاً به من جهة، وليكون في متناول يده كل حين من جهة أخرى، فلما توفاه بارئه، كان ذلك المصحف تحت وسادته، ولا تزال إلى اليوم ثنية ثناها في إحدى صفحات سورة «التوبة». وكانت هذه الآيات الشريفة آخر ما تلاه إبراهيم من كتاب الله أثناء مرضه، ولقد آثرت أن أختم بها الحديث عن حياة إبراهيم إرضاء لروحه:» الذين آمنوا وجاهدوا في سبيل اللهِ بأموالهم وأنفسهم أعظمُ درجةً عند اللهِ وأولئك هم الفائزون. يُبشّرهم ربُّهم برحمةٍ منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيمٌ مقيم. خالدينَ فيها أبداً إن اللهَ عنده أجرٌ عظيم».

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير