تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وبذلاقة ورشاقة، كان إبراهيم يتغلغل بقلمه إلى صميم الأشياء فيزيح عنها الستر ويبين ما خفي وراءها من حقائق مرة، ويا لها من مرارة يرسلها في شعره متألماً «لمظاهر العبث» التي كان يراها تغلب على ميول الأمة: أمامكَ أيها العربيُّ يومٌ تشيب لهوله سودُ النواصي وأنتَ كما عهدتُكَ .. لا تبالي بغير مظاهرِ العبث الرخاصِ مصيرُكَ بات يلمسه الأداني وسار حديثُه بين الأقاصي فلا رحبُ القصورِ غداً بباقٍ لساكنها، ولا ضيقُ الخصاص لنا خصمان، ذو حَوْلٍ وطَوْلٍ وآخرُ ذو احتيالٍ واقتناص تواصَوْا بينهم .. فأتى وبالاً وإذلالاً لنا ذاك التواصي مناهجُ للإبادة .. واضحاتٌ وبالحسنى تُنفَّذ، والرصاص ..

وأما وعد بلفور، وأما هجرة اليهود إلى هذا الوطن المنكود، فلم يبرحا مجالاً لقولٍ ذا سعة في شعر إبراهيم، وهدفاً يرمي إليه، ويحوم حواليه. وهكذا، ترى شعره الوطني شعراً يحمل طابعاً فلسطينياً خاصاً، كان حتماً أن تطبعه به أحوال البلاد المضطربة في هذا العهد المظلم من عهود فلسطين، وما كان إبراهيم ليفوز بلقب شاعر الوطن، وشاعر فلسطين لو لم يسجل قضية بلاده في شعره القوي، الذي يمتاز بذلك الطابع الفلسطيني الخاص .. ولو لم تنعكس في ذلك الشعر أصدق صورة لهذا الوطن في هذا العهد .. تأسست إذاعة القدس سنة 1936، ووقع الاختيار على إبراهيم ليكون مراقباً للقسم العربي فيها، فاحتضن هذا القسم، ولفه تحت جناحيه، وتعهده بعنايته مدة أربع سنوات. وفي سنة 1937 تعرف إبراهيم «بسامية عبدا لهادي» من إحدى أسر نابلس، فاتجه إليها قلبه، وهناك استقر؟ فأصبحت شريكة حياته، وعاش هانئاً في بيته، سعيداً بعاطفة جديدة مقدسة هي عاطفة الأبوة، إذ ولد له «جعفر» ثم ولدت «عريب». أقبل إبراهيم على عمله في الإذاعة بكل قلبه، إذ كان مثل هذا العمل يوافق ذوقه ويمشي مع ميوله، ولم تمض مدة يسيرة على إشرافه على البرامج العربية، حتى كانت تلك البرامج مرآة ينعكس عليها ذوق هذه البلاد، وآراء أهلها العرب، وكان أكبر همه أن تكون الأحاديث قريبة من مستوى العقول على اختلاف طبقاتها، لا سيما الأحاديث الأخلاقية، فكان يصل إلى هذا الغرض التهذيبي بطريقة لا يشك في نجاحها، وهي طرق هذه الموضوعات من نواحٍ ثلاث: الآية القرآنية، الحديث الشريف، المثل المشهور. ولكل من هذه النواحي أثرها البعيد في العقليات المختلفة لأهل المدن والقرى على السواء، لما لها من علاقة ماسة بالحياة الاجتماعية. ولقد كان لإبراهيم في الإذاعة أحاديث أدبية كثيرة، أضف إلى ذلك قصصاً وروايات تمثيلية، كان يصنعها بنفسه، وأناشيد، منها ما كان ينظمه لبعض البرامج الخاصة، كنشيد «أشواق الحجاز» والنشيد الذي وضعه في رثاء المغفور له الملك غازي، ومنها ما كان ينظمه لأحاديث الأطفال. لم تكن الوظيفة لتقعد بإبراهيم عن تقديم رسالته إلى هذا الوطن الذي تفانى في حبه، وجمع له همّ قلبه، ولئن كانت قد اعترضت لهاة بلبل الوطن الغريد، وحالت دون تسلسل أغانيه الوطنية الشجية، التي طالما أيقظت القلوب النائمة، وألهبت النفوس الهامدة، فلم تكن لتستطيع، أن تحول دون حبه لهذا الوطن، وبذله أقصى مجهوده لخدمة أمته عن طريق الإذاعة. ولعل من أهم ما قام به هناك، تصديه لفئة غير عربية .. كانت تسعى سعيها لتنشيط اللغة العامية، وجعلها اللغة الغالبة على الأحاديث العربية المذاعة .. وكانت حجتها في ذلك، أن الإذاعة لا يمكنها أن تحقق الغرض الذي هدفت إليه، وهو نفع الطبقة المتوسطة، إذا جرت على استعمال اللغة الفصحى .. لأن هذه الطبقة من أهل المدن والفلاحين، لا تُحسن اللغة الفصحى، على حد تعبير أصحاب القول بتنشيط اللغة العامية، ولا تفهم اللغة العربية «القديمة» التي جرى عليها المذياع! .. وقف إبراهيم وقفة حازمة أمام هذا الرأي، ونقضه يومئذٍ بحجج دامغة، أظهرهم فيها على أن المذياع لم يجر على اللغة العربية القديمة، وأنه ليس في بلاد العرب من يعرف هذه اللغة بالمعنى الذي قصده أصحاب القول باللغة العامية، غير أفراد متخصصين، وهي عندنا لغة الجاهلية التي قضى عليها القرآن بأسلوبه الجديد المبتدع، وأن عندنا اليوم لغة عربية صحيحة، يصطنعها المؤلفون ومحررو الجرائد، ويفهمها المتعلم والأمي على السواء .. وأن الفلاحين، وجلهم من الأميين، لتقرأ عليهم الجريدة، فيناقشون القارئ في افتتاحيتها، ولا يعقل

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير