إن كان لشيخنا باع في الحديث، والفقه، والتاريخ، والنحو، و .. إلا أن علم «اللغة العربية» هو الذي تميز به من بين معاصريه، وهذا ما اشتهر به، ومؤلفاته ومقالاته وبرامجه الإذاعية تشهد بذلك، ولا أعلم أن أحدًا مثله في عصرنا في اللغة وعلومها، لا في الشعر والأدب، ولا النحو والصرف، ولا اللغة وفقهها. بل تميز الشيخ بكثرة استخدام شوارد اللغة وغريب الألفاظ، حتى إنه ليكتب الرسالة الواحدة، ولا يستطيع أحد قراءتها من غير الرجوع إلى معاجم اللغة الموسعة.
كل يؤخذ من قوله ويرد:
كان للشيخ رحمه الله بعض المسائل قال فيها بقول ابن حزم رحمه الله، فسبب ذلك فجوة بينه وبين بعض معاصريه، وهذا نابع من انتسابه للمذهب الظاهري، في وقت لا نجد من ينتسب إليه، والشيخ يعلن ذلك، بل اختار لنفسه هذا الاسم: «أبو تراب الظاهري»، ولا يعرف إلا به.
ومعروف لدينا نظر العلماء قديما وحديثا إلى هذا المذهب، بل قد وسمه بعضهم بالشذوذ، ولم يعدوا خلاف ابن حزم رحمه الله في المسائل الإجماعية خرقا للإجماع، بل مر زمن حرقت فيه مؤلفاته، وأكثر العلماء من الرد عليه، والقسوة عليه، إما في حياته، أو بعد مماته، وإلى وقتنا هذا.
ولاشك في أن ابن حزم إمام مجتهد، من أئمة الدنيا، ومن نوادر ما عرف الزمان في العقل والعلم، وكان يتوقد حكمة وذكاء، ولعل من أشد ما أغضب الناس عليه هو تشدده في القول بالظاهر، وتشدده في الرد على خصومه، ولا سيما: أبي حنيفة، ومالك رضي الله عنهما، بل اشتد النكير عليه، عندما قال عن الإمام أبي عيسى محمد بن سورة الترمذي، صاحب «السنن»: «مجهول»!!
ويعلم الله بأني لم أرد التنقص من قدر ابن حزم رحمه الله، فهو كما قلت من أئمة الدنيا، ولكن سقت هذا الكلام لأبين نظرة الناس إليه، ومن ثم نعلم سبب انتقاد بعض معاصري أبي تراب لانتسابه لهذا المذهب.
ولكن عند مجالسة الشيخ «أبي تراب»، ومناقشته في بعض المسائل يتبين أنه لا يقول بالظاهرية جملة وتفصيلا، بل يخالف ابن حزم في بعض المسائل.
كما أنه ذهب إلى ما ذهب إليه عن اجتهاد، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر.
ولا أظن أن الخلاف في الفروع، يبرر الوقوع في أعراض المسلمين.
قصة وفاته:
الشيخ مع كبر سنه، إلا أنّه قليل الحركة، بسبب اعتكافه في خزانته، وقد تعب في آخر حياته جدًا، وتوالت عليه الأمراض بسبب الشيخوخة، وفي صباح يوم السبت الموافق 21/ 2/1423هـ طلب من خادمه مساعدته للوضوء، وقد أحس ببطء في حركته، وبعد عودته إلى فراشه، شعر بأن قدميه توقفتا عن الحركة، بعدها لفظ أنفاسه الأخيرة، قابضا بأصابع كلتا يديه مشيرا بالسبابة، على الهيئة المعروفة عند ذكر الحي الذي لا يموت سبحانه!
عندها اتصل الخادم بأخي الاستاذ علي الشمراني، والذي أحضر الطبيب، فأخبرهم بوفاة الشيخ رحمه الله.
وقد صلي عليه فجر يوم الأحد، ودفن بمقبرة المعلاة بمكة المكرمة.
وهكذا سقطت السارية العتيقة، والتي كبرت وارتفعت حتى أدركت أكثر من عصر.
و «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا عليك يا أبا تراب لمحزونون»، ولا حول ولا قوة إلا بالله، الحي الذي لا يموت.
ملامح من سيرته:
_ كان رحمه الله محبًا للمجالسات والمذاكرات العلمية، وهذا أهم ما يميزه.
_ كثير القراءة، ومتابع لأخبار الكتب، وكان كثيرًا ما يتصل بي في «الرياض» ليسألني عن الجديد، فأشتريه له.
_ إذا غضب، فانه سرعان ما ينسى ويتسامح.
_ يحب سماع الفوائد العلمية، ولو ممن هم أصغر منه سنا، وأقل منه علما.
_ محب لطلاب العلم.
_ كريم جدًا، ولا يرد لأحد طلبا.
_ محب للمزاح والضحك، وقد سمعت منه قصصا طريفة وغريبة من أخبار المحدثين، أو من نوادر الفقهاء، أو من بلاهات المخرفين، وعندي من ذلك طرائف وغرائب.
_ كان يحب البسطون (العكاز)، ويعدد في أشكاله وألوانه وجمع منه عددًا.
_ كان له ثلاثة من الرفقة في آخر حياته، لا يملهم ولا يملونه، وهم: أخي الأستاذ علي بن محمد الشمراني موظف رسمي، والسيد أحمد بن عمر البيتي رجل أعمال، والكابتن الطيار عمر بن محمد البيتي في الخطوط السعودية، وكان الأول يساعده بإنجاز أعماله ومراجعاته، أما الثاني فكان يرافقه في سفراته العلاجية، مرافقا ومترجما.
¥