تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما بالنسبة للقرآن العظيم فإن هذه الظاهرة مدفوعة أصلاً إذا ليس في القرآن مهمة لفظية على وجه، ومهمة معنوية على وجه آخر بل هما مقترنان معاً في أداء المراد من كلامه تعالى دون النظر إلى جزء على حساب جزء غيره، فالتصور فيه دفعي جملي مرة واحدة دون تردد أو إمهال، وحسبك ما تشاهده في جميع أصناف المحسنات البديعية الواردة في القرآن، وفي طليعتها السجع وانتظام الفواصل وتوافقها دليلاً على صحة هذا الرأي، وطبيعي أن نهاية الفقرات والسجع في النثر العربي، تقابله الفواصل في القرآن الكريم وهي تسمية اختيارها جهابذة الفن، وعلماء الصناعة تكريماً للقرآن عن مقايسته بسواه.

إذن هذه الفواصل على تقاطرها وتواردها في النصوص القرآنية وقد يرتفع بعضها إلى سور متكاملة لا سيّما القصار كالإخلاص، والقدر، والناس، والجحد، والعصر، والكوثر ... الخ.

وهناك سور متوسطة الطول والقصر وقد تناوبها السجع من أولها إلى آخرها كما هي الحال ـ على سبيل الأنموذج في سورة الأعلى.

إن هذه السورة ولنتبرك بذكرها كاملةً: ـ

«بسم الله الرحمن الرحيم»

(سبّح اسم ربّك الأعلى * الذي خلق فسوّى * والّذي قدّر فهدى * والذي أخرج المرعى * فجعله غثاءً أحوى * سنقرئك فلا تنسى * إلاّ ما شآء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى * ونيسرك لليسرى * فذكر إن نفعت الذكرى * سيذكر من يخشى * ويتجنبها الأشقى * الذي يصلى النار الكبرى * ثم لا يموت فيها ولا يحيى * قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى * بل تؤثرون الحياة الدنيا * والأخرة خير و أبقى * إنّ هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى *)».

مما وقف عنده العرب موقف المتحير المتعجب بوقت واحد فهي على وتيرة واحدة في فاصلة متساوية تختتم بالألف، ومن أولها إلى نهايتها، ولو شئت أن تغير أية كلمة من هذه الفواصل، وتضع ما يلائمها بدلها في سبيل تغيير صيغة الفاصلة لما استطعت أن تحقق الدلالة اللفظية


(55)

التي حققها القرآن الكريم، وما يقال في جميع السور والآيات الأخرى، وبالنسبة للصنوف البديعة كافة.
وهنا ـ ونحن في هذا السياق ـ أود أن أشير إلى صيغة تنسجم مع هذا العرف الذي نتحدث عنه بإيجاز، هذه الصّيغة هي كلمة» المقابر «في قوله تعالى: (الهاكم التكاثر * حتّى زرتم المقابر *) (1) كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون *) (2)، فإذا جاز له الانتقال بها جاز له الانتقال فيما قبلها مباشرة كما هو ظاهر، بل إن هذا اللفظ «المقابر» يفرض نفسه فرضاً قاطعاً، وذلك أن هذا الأنسان المتناسي الطاغي المتكاثر بأمواله ولذاته، وشهواته، ومدخراته، ونسائه، وأولاده، ودوره، وقصوره وخدمه وحشمه، وإداراته وشؤونه، وهذا كله تكاثر قد يصحبه التفاخر، والتنابز، والتنافر، إن هذا مما يناسبه «المقابر» وهي جمع مقبرة، والمقبرة الواحدة لا سيّما المترامية الأطراف مرعبة هائلة. فإذا ضممنا مقبرة أخرى ومقبرة مثلها ازددنا إيحاشاً ورعباً وفزعاً، فإذا أصبحت مقابر عديدة، تضاعف الرعب والرهب، إذن هذا التكاثر الشهواني في كل شيء، يناسبه ويوافقه الجمع المليوني للقبور، لتصبح مقابر لا قبوراً ولو قيل في غير القرآن بمساواة القبور للمقابر في الدلالة لما سد هذا الشاغر الدلالي شيء آخر من الألفاظ.
وتعقب الدكتورة بنت الشاطئ على هذا الإدراك فتقول: «وقد تجد الصيغة البلاغية في استعمال المقابر هنا مجرد ملائمة صوتية للتكاثر، وقد يحس أهل هذه الصنعة ونحن معهم فيها، نسق الأيقاع، وانسجام النغم لكن أهذا كل ما في استعمال للفظ «المقابر» في آية التكاثر؟.
الذي أراه أن وراء هذا الملحظ البلاغي اللفظي ملحظاً بيانياً يتصل

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير