تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بالمعنى: فالمقابر جمع مقبرة، وهي مجتمع القبور ... واستعمالها هنا ملائم معنوياً لهذا التكاثر، دال على مصير ما يتكالب عليه المتكاثرون من متاع دنيوي فإن ... هناك حيث مجتمع القبور ومحتشد الرمم ومساكن الموتى على اختلاف أعمارهم، وطبقاتهم، ودرجاتهم، وأزمنتهم، وهذه الدلالة من السعة والعموم والشمول لا يمكن أن يقوم لفظ «القبور» بما هي جمع لقبر، فبقدر ما بين قبر ومقبرة من تفاوت يتجلى إيثار البيان القرآني «المقابر» على «القبور» حين يتحدث عن غاية ما يتكاثر به المتكاثرون، وحين بلغت إلى مصيره هذه الحشود من ناس يلهيهم تكاثرهم عن الاعتبار بتلكم المقابر التي هي مجتمع الموتى ومساكن الراحلين الفانين» (1).

هذا العرض يكشف أن دلالة اللفظ لا تتحكم بها الفاصلة كما تحكمت بها المعاني الإضافية، واقتضاها البعد البياني في استيعاب المراد من وجوهه المختلفة، وجوانبه كافة، وذلك من دلائل إعجاز القرآن، في جمعه بين الصيغة الجمالية للشكل، والدلالة الإيحائية في المعنى.

الظاهرة الثالثة:

إن اختيار هذه الألفاظ إنما اتّجه بالخطاب إلى سكان الأرض الذين يهمهم أمرها ليتعرفوا على ما فيها عقلياً، ويتطلعوا إلى كشف أسرارها علمياً، بحسب الذائقة الفطرية الخالصة التي تبدو بأدنى تأمل وتلبث وترصد، وهنا نضع أيدينا على جملة من التعابير القرآنية بألفاظ لها دلالتها الهامشية إن لم نقل المركزية في كثير من الأبعاد النقدية والبلاغية زائداً العلمية:

أ ـ ففي قوله تعالى: ـ (أفلا يرون أنًا نأتي الأرض ننقصها من أطرافهآ ... ) (2).

يتجلى موقع «أطراف» «ننقصها» في التعبير، ... فالأطراف توحي بنظرة شمولية لشكل الأرض، و «ننقصها» توحي بفكرة آلية عن طبيعة


(1) بنت الشاطئ، التفسير البياني: 1/ 207 وما بعدها.
(2) سورة الأنبياء: 44.

انتقاص الأطراف وهاتان حقيقتان علميتان بنظرية دحو القطبين وحركتهما يوضحهما قوله تعالى: ـ
(لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهآر وكل في فلك يسبحون *) (1).
ب ـ وفي قوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمئان مآء حتّى إذا جآءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفّاه حسابه والله سريع الحساب *) (2).
«ففي هذه الصورة الأخاذة يتجلى سطح الصحراء العربية المنبسطة، والخداع الوهمي للسراب، فنحن هنا أمام عناصر مجاز عربي النوع، فأرض الصحراء وسماؤها قد طبعا عليه انعكاسهما ... حين نستخدم خداع السراب المغم، لنؤكد بما تلقيه من خلال تبدد الوهم الهائل، لدى إنسان مخدوع، ينكشف في نهاية حياته غضب الله الشديد في موضوع السراب الكاذب ... سراب الحياة» (3)، فلفظ «سراب» استقطب مركزياً دلالته من خلال البيئة العربية المشاهدة المحسوسة، وكما يتلاشى هذا السراب فجأة، وينطفي تلألؤه بغتة، فكذلك ما أمله هؤلاء الكافرون بأعمالهم الخادعة، متماثلة معه في خداع البصر وانطماس الأثر، فلو عطفنا دلالة «الظمآن» الإيحائية، لوجدنا الظمآن في تطلبه للماء، ووصوله إلى السراب يقضي حسرة أشد، وفاقة أعظم، وحاجة متواصلة، ولكنه يصطدم بالحقيقة الكبرى وهي الله تعالى، فيوفّيه حسابه، دون معادلات معروفة، فلا المراد حقق، ولا الحياة استبقى ولا الثواب استقصى، وإنما هي حسرات في حسرات.
حـ ـ ولو تتبعنا مآل هؤلاء الكافرين في خيبة أمالهم وخسران أعمالهم، لو جدنا الصورة المتقابلة مع تلك الصورة بقوله تعالى: ـ
(أو كظلمات في بحر لجيّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير