ومن أوّليّات مراجعة النفس الصادقة، ومن الأمانة في محاسبة النفس: أن لا يخوضَ المرءُ في علم يجهله، وأن لا يتكلَّم فيما لا يحسنه. فكما لا يحق لي أن أشكّك في علم الجينات الوراثيّة، لمجّرد أني التقطتُ معلومة من هنا وهناك، دون دراسة متعمّقة متخصّصة، وكما لا يصح أن أُجَادل علماء الآثار والحفريّات في النتائج التي توصّلوا إليها، ما دمت غير مشارك لهم في التخصُّص الذي دقّقوا وتعمّقوا فيه فكذلك لا يحق لي أن أخالف علماءَ السنّة، ولا يصح أن أعارضهم، ما دمتُ غير عالمٍ بعملهم، ولا معرفة لي بدقائقه الكثيرة وبأعماق علومه العديدة.
إن علوم السنة النبويّة التي وضَعها علماء السنة لنقد المرويّات قد بلغت في كثرتها ودقّتها مبلغاً أدهش كل من تعرّف عليها، حتى من غير المسلمين الذين اطّلعوا على بعض جوانب عظمتها، وبالغ موضوعيّة منهجها النقديّ، وقوّة وسائله في التحرّي والاحتياط للسنة.
وإنّي إذ أتحدّث عن علوم السنة بهذا الحديث، والذي أعلنُ من خلاله أن دقّة علوم السنة وعمقَها وصدقَ نتائجها لهو وحده دليلٌ كافٍ (لمن عرفها) أن السنة محفوظةٌ مصونة من النقص أو الزيادة ومن الاختلاط غير المتميِّز. ولا أعلن هذه الحقيقة التي أرى أدلّتها في علوم السنة أمامي كما أرى المُحَسّاتِ التي أمامي تماماً؛ لأني أريد من الناس أن يقلدوني في هذا الإيمان الذي استفدتُه من علوم السنة؛ فإني أعلم أن هذا ليس منهجاً صحيحًا في الجدل وإقامة الحجّة. ولكني إنما أعلنُ هذه الحقيقة؛ لأني أتمنَّى ممّن كان في قلبه شك في هذه العلوم، أن يتعلّمها التعلُّم الصحيح، على يد العلماء بها، كما يتعلّم أيّ علم عميق من العلوم الكونيّة، لكي يعلم من علوم السنة ما علمتُه منها، ولكي لا يسمح لنفسه أن تخوضَ فيما لا تعلم، وأن لا يظلم الحقيقة العلميّة عندما يتحدّث عمّا يجهل.
والقول بأن الطعن في صحة بعض الأحاديث فيه مفض للطعن في كلها قول باطل،
ما لم تعين هذه الأحاديث فهو قولصحيح وليس باطلا
فعندما أقول هناك أحاديث ضعيفة في البخاري دون تعين لهذه الأحاديث للمناقشة فهذا القول يجوز في كل حديث في الكتاب وهو مفض إلى الطعن في الكتاب كله لأنه إذا جاز في واحد لا بعينه جاز في كل فرد فلا يبقى لأحد الوثوق بما في الكتاب
وهذا القول يجعل البخاري معصوما ويجعلك تلغي عقلك وتصدق مثل هذا الحديث
لم يقل أحد بعصمة البخاري وقد ناقش العلماء قديما وحديثا بعض الأحاديث بعينها في البخاري لكن هذا مقصور على من يملك أدوات العلم من العلماء المتخصصين أما رد الأحاديث واتهمها بالضعف لأنها لا تناسب بعض العقول السقيمة فهذا تعد وجهل
:
حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ
رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ قَدْ زَنَتْ فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ.
ولأن العقل لا يصدق مثل هذا والحديث وارد في كتاب لا يتطرق الشك إلى أي حديث فيه -كان لا بد للعقل أن يبحث عن تخريج لهذه الرواية الغريبة .. فذهب قوم إلى أنها كانت من سلالة بشرية ممسوخة حافظوا على إقامة هذا الحد، سبحان الله، مسخهم الله عقابا لهم على تجاوزهم حدود الله ومع ذلك ظلوا يحافظون على إقامة حد من هذه الحدود بعد المسخ، منطق عجيب، وهذا القول مردود بأن الممسوخين لا نسل لهم .. وبعضهم قالوا إنهم كانوا من الجن وكانت شريعتهم كشريعتنا في حد الزاني المحصن! وبعضهم قال: لا يبعد ذلك لأن القرد حيوان ذكي فطن ويغار على أنثاه جدا، مع أنه ورد في أمثال العرب في الجاهلية (أزنى من قرد) وفي العلم الحديث لا يوجد أي دليل على أن أنثى القرد تقترن بذكر واحد، وتعاقب إن تجاوزت حدودها، نعم قد يصبح الذكر عدوانيا تجاه الأنثى إن علم بعلاقتها مع ذكر آخر في بعض أنواع القرود، ولكن أن تجتمع المجموعة كلها على عقابها، فهذا لا دليل عليه ألبتة، فكيف نصدق أنها أقامت حدّ الرجم؟
قال ابن قتيبة الدينوري رحمه الله:
"قالوا – يعني المستهزئين بالسنة الطاعنين عليها -: رَويتم أن قرودا رجمت قردة في زنا ..
¥