ثم تنتقل الآيات للمشهد الأخير فى القصة وهو مشهد دخول آل يعقوب جميعاً على يوسف فى مصر وفيها تاويل الرؤيا الصادقة نظرياً فى أول القصة تأويلاً عملياً واقعاًً حقاً (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ يا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
وهنا التفت يوسف إلى أبيه مذكراً إياه ونفسه برؤياه الأولى التى تحققت الآن على أرض الواقع معدداً إحسان ربه تعالى عليه (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ).
وفى ذكر هاتين النعمتين مقابلة لطيفة ... فبالإضافة إلى أهميتهما ... فقد كان السبب المباشر فى تحقيق الرؤيا فخروجه من السجن ومن ثم إلى منصب عزيز مصرمهد وقدم لمجيئهم من البدو ومن ثم إلى السجود له فلو تخلفت واحدة ما كانت الثانية ولا الخاتمة.
ونلاحظ أن يوسف لم يذكر نعمة إنقاذه من الجب لطفاً وأدباً مع أبيه وإخوته فلا يؤذيه فى أبنائه بتلك الذكرى الأليمة القاسية عليهم جميعاً ... خاصة بعد أن غفر لهم وصلح حالهم.
كما أنه أرجع السوء إلى الشيطان أصل كل شرورأس كل فساد (مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي).
وكأنى بيوسف وهو يلتفت إلى أبيه ويقول له: يا أبت عندما قصصت لك رؤياى من قبل قلت لى (يا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِين)
وكأنك كنت تقرأ فى كتاب الحق بعينى العلم والحكمة ... فجعلت وصيتك نصب عينى هادياً ومع ذلك وجد الشيطان فى لحظة ضعف سبيلاً إلى النزغ بيننا ... لكنه بلطف من الله ورحمة منه وهدى وعون حفظنى منه ووفقنى إلى أن أنصر إخوتى عليه فلم أقع فى مصيدة نصرالشيطان على إخوتى.
ثم يعقب يوسف على قصته بتقرير جوهرالحقيقة وهى أن مشيئة الله كانت هى الفاعلة وبجميع صفات الرب الحسنى من لطف وعلم وحكمة (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)
فالله تعالى مصدرالخير كله ومولى النعم ... يفعل ما يشاء من خير برفق ورقة خافية غامرة محيطة فليحذر العبد أن يظن أن مشيئة ربه من شدة لطفها أمراً غير كائن فييأس ف (إِنَّهُ لاَ ييأسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) ... بل عليه أن يحسن الظن بربه فإنه من اتقاه (يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ) (الطلاق 2 - 3).
وهكذا يلخص يوسف ما كان من أمرهم ويرجع الفضل بكل الصدق والأدب كعادته فى كل أمره إلى المولى الكريم ذى الفضل والإحسان ... إلى مشيئة الله العليم الحكيم الفاعلة بلطف وحكمة لا ينتبه لهما الناس غالباً إلا عند ظهورالنتائج وتأويل الأحداث وتحقيق الآمال.
ثم التفت يوسف إلى ربه (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرضِ أَنتَ وَلِيِّ فِي الدُّنُيَا وَالآخرةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).
وبهذه المناجاة الرقيقة وهذا الإبتهال الصادق والدعاء المتضرع الذى يشيع فيه عمق المحبة وقوة الصلة وسلامة القلب وإخلاص النية وأحادية التوجه يختم يوسف إحساناته بمخ العبادة وثمرة العمل ... فبعد سلسلة متلاحقة من إحسان العمل لخصتها الآية السابقة حق ليوسف الآن أن يختمها بإحسانه فى الدعاء مقدماً بين يديه الثناء على المنعم بما هوأهله ... وذكرآلائه وأفضاله الخاصة والعامة على الكون كله بسماواته وأرضه ... ومولياً أمره كله إليه فى دنياه وفى آخرته وسائلاً إياه حسن الخاتمة كما أحسن المقدمة.
وبهذا الإبتهال والتعقيب والدعاء بحسن الختام يختم المولى عز وجل قصة نبيه الصديق عليه السلام فى هذه السورة.
الخاتمة
لقد انتهت القصة وتأكد السامع من حسن بيانها وصدق حديثها وعظيم معانيها وماذا بعد؟ أوتنتهى القصة عند هذا الحد؟ وأين تأثيرها على السامعين؟
¥