تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مظنة الخفة فلا تثقلها أعباء الشهوات التي تنجذب بها الأرواح البشرية إلى الأرض، والخفة مئنة من النشاط في العمل بلا فتور أو كلل، وذلك رسم الملائكة، فـ: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)، فلا يفترون عن التسبيح والذكر فلأجله خلقوا، ولا يرد على ذلك أن بني آدم قد خلقوا لذلك، أيضا، لقرينة القصر في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، فذلك من القصر الإضافي بالنظر إلى ما يستغرق زمان المكلف من الأعمال والأقوال، فليست كلها عبادة محضة، بل جل زمان المكلف عند التدبر والنظر ينقضي في المباحات، وهو من القصر الحقيقي بالنظر إلى الغاية من خلق النوع الإنساني، فالعبد المسدد هو الذي يقضي عمره كله في طاعة سواء أكان فعله عبادة محضة، أم عادة جبلية ينوي بها القربة الشرعية ولو بالترويح عن النفس لتنهض إلى التكليف الشرعي بالتدبر والنظر الباطن، والقول والعمل الظاهر، فلا يرد على خلق الملائكة للعبادة المحضة برسم الطاعة الجبلية الاضطرارية فـ: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، لا يرد عليها أن البشر قد خلقوا للعبادة أيضا، فعبادة البشر تباين عبادة الملائكة فرعا على التباين بين خصائص البشر التي يمتزج فيها الخلق النوراني اللطيف بالخلق الطيني الكثيف وخصائص الملائكة التي يخلص فيها الخلق النوراني من غلظ الخلق الطيني فهو نور ناصح من كدر العلائق البشرية الكثيفة التي تلائم خلق الإنسان المكلف برسم الاختيار لا الملك المسبح برسم الاضطرار، فذلك أصل الملائكة، وأما أصل البشر فهو الطين الكثيف الممزوج بالروح اللطيف فتصطرع فيه قوى الروح والجسد فلكل غذاؤه، ولا يحسن الميل إلى شق دون آخر، فذلك ذريعة إلى وقوع الخلل والاضطراب، فلا يحسن الميل إلى شق البدن بإشباع الشهوات وإرواء الغرائز من كل صنوف اللذة، ولو باطلة محرمة، بل ولو مباحة فالإفراط في تناول المباحات مظنة فساد البدن بما يعتريه من أدواء قاتلة فـ:

فإن الداء أكثر ما تراه ******* يكون من الطعام أو الشراب

فضلا عن الإفراط في تناول شهوة النكاح فهي ذريعة إلى تحلل قوى البدن والروح، فقليل منها يلطف، وكثير منها يثقل ويمرض، وذلك أمر معلوم لمن ذاق تلك اللذة، فأشد الناس شوقا إليها وأكثرهم استمتاعا بها أقلهم مباشرة لها برسم الاعتدال لا الهجر المفضي إلى فساد المزاج واضطرابه وفتنة الصاحب في دينه فـ: "إن لربك عليك حقاً وإن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حقٍّ حقه"، ولا يحسن في الجانب الآخر: الميل إلى شق الروح بالمداومة على العبادة المحضة، فذلك، كما تقدم، مظنة السآمة والملل، ولا يحسن الميل إليه بهجر جنس الشهوات المركوزة في الجبلة الطينية فبها قوام البدن الذي لا تقوم الروح إلا به، فهو آلة التكليف، كما لا يقوم هو إلا بها، فهي مادة الحياة، فلا صلاح لأحدهما إلا بصلاح الآخر، فالتلازم بينهما تلازم وثيق، يشهد له الحس شهادة عدل ضابط فخبره الخبر الصادق بل الضروري الذي لا يفتقر إلى دليل نظري فمن ذا الذي ينكر التأثير المتبادل بين الروح اللطيف والبدن الكثيف فكلاهما يؤثر في الآخر صحة أو فسادا، فإذا فسد البدن بمرض أو ثقل لإفراط في شهوة، ولو مباحة، ظهرت أعراض ذلك على الروح فقسا القلب وغلظت النفس فلا تدرك مراد الشارع، جل وعلا، لحجب مداركها بحجاب الشهوة الغليظ عن موارد العلم الإلهي اللطيف الذي لا تقبله إلا محال لطيفة يقتصد أصحابها في تناول المباح، فلا إفراط ولا تفريط، فـ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، فهي مباحة برسم الاعتدال، ولا تنهض إلى تأويله بالامتثال فآلة التكليف ثقيلة أو معتلة بما ورد عليها من الأخلاط الفاسدة فهي نتاج الإفراط في تناول الشهوات المحسوسة، وإذا فسدت الروح بما يرد عليها من كفر أو شرك أو بدعة أو معصية أو حتى ترك لمندوب أو اقتراف لمكروه، إذا فسدت أنتج ذلك شؤما يضعف البدن فتلك من العقوبات الكونية

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير