تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

من عناية الرب، جل وعلا، بالنوع الإنساني فلم يوقع به ما يستحقه كونا، فـ: (لَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ) ولم يكلفه ما لا يطيق شرعا فـ: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، ونسبت الإصابة إلى السيئة تأدبا مع الرب، جل وعلا، فلم تنسب إليه مباشرة، وإن صحت نسبتها إليه خلقا وتكوينا فهو الذي قدرها وكتبها وشاء وقوعها ثم أصاب بها من شاء من عباده، فهو القدير الحكيم فيصيب من يشاء برسم العدل ويعافي من يشاء برسم الفضل، كما أشار إلى ذلك الطحاوي، رحمه الله، في عقيدته المشهورة بقوله: "يهدي من يشاء، ويعصم ويُعافي فضلا، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله". فنسبتها إلى السيئة تجري مجرى ما تقدم من المجاز العقلي، فينسب الفعل إلى سببه المؤثر، وإن لم يستقل بالتأثير، فالسبب لا ينتج أثره في الخارج إلا بإرادة مسبِّبه، جل وعلا، فهو خالق الأسباب ومجريها على سننه الكوني المحكم، ومن ينكر المجاز في آي التنزيل فإنه يجعل النسبة حقيقية، لانفكاك جهة تأثير الأسباب بالقوى المودعة فيها عن جهة التأثير بالتكوين ثم التسيير بالإرادة الكونية النافذة، فليس ذلك إلا للرب، جل وعلا، فصحت النسبة هنا من جهة التأثير، وبطلت من جهة الاستقلال بالتأثير فالسبب لا يستقل بالتأثير وإنما يلزم لوقوع الأثر: تعاضد أسباب وانتفاء موانع، وكل سبب يصدر عن سبب، فسلسلة الأسباب متصلة إلى السبب الذي ليس قبله سبب، وهو كلمة الرب، جل وعلا، الكونية، أثر صفاته الفعلية فهي التي تستقل بالتأثير، فالرب الخالق، جل وعلا، يستقل بالتأثير في خلق الكائنات بكلماته الكونية التي تتعلق بمشيئته لخلق الكائنات فهي تأويل صفة الخلق الفعلية.

وجاء التذييل بـ: "إذا" الفجائية تنويها بتلك الحال، فضلا عن التوكيد بإسناد الفعل إلى الضمير: (إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)، ثم تكرار المسند إليه في حيز المسند الذي جاء على حد المضارعة استحضارا للصورة فهو مما يرسخها في الذهن، فيحصل بذلك مزيد تنفير منها فقد وردت مورد الذم، فيفرحون حال الحسنة ويجحدون فضل المنعم بها، جل وعلا، ويقنطون على جهة الاستمرار، لدلالة المضارعة كما تقدم، حال السيئة وينسون الرحمات التي تنعموا بديمومتها أزمانا طويلة وأعمارا مديدة فكأنهم ما نعموا قط، وذلك من جحود الفضل ونكران الجميل بمكان!.

فصاحب البطر من أهل: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)، كما تقدم، فيصدق عليه تأويل سنة: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)، فذلك من سنة الاستدراج بالمكر الرباني، فقد عوقبوا بالغفلة فظنوا النعمة حال الإقامة على المعصية منحة، فتمادوا في العصيان، وفرحوا فرح البطر الأشر الذي عميت بصيرته فأمن مكر الرب، جل وعلا، ففتحت عليهم الأبواب، والعموم في الآية مخصوص بأبواب النعم الكونية وفيه زيادة في معنى المبالغة إمعانا في تقرير سنة المكر الربانية، فجاءت العقوبة بالأخذ في مقام الجلال، فهو من الأخذ الكوني النافذ برسم العقوبة العامة، فحسنت من هذا الوجه إضافته إلى ضمير الفاعلين مئنة من التعظيم، وزيد في معنى العقوبة بوقوعها: "بغتة" فذلك من المصدر الذي وقع حالا على تأويله بـ: "مباغتين"، ووقوع الحال مصدرا يؤول بها مما يزيد المعنى تقريرا على وزان قولك: جاء زيد ركضا، ففيه إمعان في بيان هيئة الركض الذي جاء عليها زيد، فيصدق عليه تأويل سنة الأخذ الرباني عقيب الفرح المذموم، وكذلك الشأن في نحو قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ): ففرحوا بما عندم من العلم الديني الباطل والقياس العقلي الفاسد، فقدموه على بينات النبوات المؤيدة بالقياس العقلي الصريح، وفرحوا بما عندهم من العلم الكوني، كما هي حال من فتن بالعلوم التجريبية

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير