تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

في زماننا وما هي إلا رصد لآثار سنن كونية محكمة، فليست إبداعا وإنما هي اكتشاف محض لما قد ركز أزلا من القوى الكونية في طبائع الأشياء، فاستعملها الإنسان في توليد الطاقة التي بها تسير الأسباب على ما قد قدر لها أزلا، لو فقه البشر، الذين عجزت عقولهم عن الجمع بين التكوين والتسيير للأسباب بالقدر الكوني النافذ فذلك محط الابتلاء بالتصديق بالخبر المغيب، والتأثير الذي توقعه بما ركز فيها من القوى الفاعلة المؤثرة التي لا تستقل بالتأثير بل تخضع كما تقدم لمشيئة المهيمن جل وعلا فذلك محط الابتلاء بمباشرة هذه الأسباب على ما قد شرع الرب جل وعلا من الأحكام، فالابتلاء: تصديق بخبر الغيب، وامتثال لحكم الشرع الذي يتعلق عادة بالأسباب المشهودة التي يباشرها الإنسان فعلا للمشروع وكفا عن المحظور.

فلما فرحوا أحاط بهم العذاب بما كانوا به يستهزءون، وذلك أبلغ في بيان جرمهم من قولك في غير التنزيل: باستهزائهم، فهو مئنة من صيروته طبعا لازما لهم لا حالا عارضة، فضلا عن دلالة المضارعة على التجدد والحدوث. وإحاطة العذاب بعد وقوع الاستدراج آكد في تقرير معنى المكر الرباني.

والشاهد أن الاستعارة في حديث: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" استعارة لمعنى الحبس العام، ولا يمنع ذلك من استعماله لمعنى السجن الخاص الذي استعير منه، فهو مما ابتلي به كثير من أصحاب الظلامات، فاجتمع عليهم سجن التكليف العام بالنظر إلى معنى المشقة فيه فلا ينفك تكليف عن مشقة، وإن لم تكن مرادة لذاتها فهي عارضة في كل تكليف فتلك طبائع الأشياء، فإن المؤلمات، كما تقدم في صدر الكلام، بل والملائمات لا تنفك عن نوع مشقة فالشهوة مع كونها مظنة اللذة التي ينتفي معها ألم المشقة، لا تنفك مع ذلك، من مشقة في تحصيل سببها بل وفي مباشرتها!. فصح من هذا الوجه استعمال اللفظ في معناه الحقيقي إن وقع المؤمن في الأسر الخاص لا سيما في الأعصار الأخيرة التي عم فيها الجور وكثرت فيها الظلامات بعد تنحية النبوة عن القيادة، ومعناه الكنائي فذلك معنى يعم كل المؤمنين، فهم في سجن وسنة كونية، فهي مئنة من القحط، وذلك، أيضا، مما يصح حمله على معناه الحقيقي كما سيقع للمؤمنين الذين يكفرون بالدجال، أو معناه الكنائي فالقحط مظنة الضيق الذي لا ينفك عنه المؤمن في هذه الدار، وهو مع كل ذلك من أعظم الناس طمأنينة وانشراحا، فيرد العارض الكوني بامتثال التكليف الشرعي شكرا في السراء وصبرا في الضراء، فذلك من جملة أوصاف البررة كما في آية البقرة: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ).

وفي المقابل وعلى جهة المقابلة استيفاء لشطري القسمة العقلية في هذا الباب أيضا جاء التذييل بحال الكافر الردية فتأخر ذكره بعد المؤمن، فحري به التأخير في الأولى والآخرة، فالدنيا: "جنة الكافر"، فذلك بالنظر إلى ما يلقاه من أهوال العذاب المؤبد في دار الجزاء، فمهما كانت حاله في الدنيا: بؤسا وشقاء، فهي جنة بالنظر إلى سوء مآله، فكل عذاب دون عذاب الرب، جل وعلا، يهون، كما أن كل نعيم سوى نعيمه يزول.

والشاهد أن القصر في الآية: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ): قصر إضافي فليست الدنيا لهوا ولعبا، بل فيها كما تقدم جملة من الملائمات، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، ففيها ملائمات تلتذ بها النفوس بمقتضى الجبلة، وفيها ملائمات تعرض فيها المشقة فليست مما يلتذ به، وإن كان ذريعة إلى وقوع اللذة، فتحصيل الأرزاق، على سبيل المثال، فيه مشقة تعظم في أزمنة الفقر والفاقة، وهي مع ذلك مما يلائم النفوس فلولاها لهلكت، فهي سبب استجلاب الرزق الذي تحفظ به المهج في دار الدنيا، وامتثال حكم الشارع، جل وعلا، فيه أيضا مشقة فلا يخلو تكليف منها، كما تقدم، وهي، أيضا، مما يلائم النفوس فلولاها لفسد حالها فهي سبب حصول الإيمان الذي تكون به نجاة المهج في دار الجزاء، فتلك ملائمات في العاجل والآجل، وهي مع ذلك لا تنفك عن ألم، فالمصلحة الخالصة من المفسدة، واللذة الناصحة من الألم: أمر عزيز في هذه الدار، كما يقول بعض المحققين، فرسمها

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير