تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أفسدت عليهم الدنيا ولم تحفظ لهم الدين، فمآلهم إلى انقطاع ولو بعد حين أو أجيال، فلم تصبر الأجيال التالية على ما صبرت عليه الأجيال السابقة، وتلك سنة الرب، جل وعلا، في كل مسلك غال يبدأ الانحراف فيه يسيرا فيجبره إخلاص من أحدثه، وإن كان العمل في نفسه فاسدا فتخف آثار فساده وإن لم تزل، فالفساد واقع لا محالة بالخروج عن سنن الأنبياء عليهم السلام، ولو خروجا محدودا في فرع عملي أو مسلك زهدي، ويكفي لبيان خطر ذلك التنويه بما يقوم بقلب فاعله من قدح خفي في الشريعة السماوية فقد جاء بما يظن أنه خير منها، ثم لا يلبث الانحراف أن يزيد والإخلاص أن يقل، فيعظم الفساد فلم تطق نفوس الآخرين لفسادها ووقوع السآمة لها، ما أطاقه الأولون من رسوم الزهد الغالي فهو مظنة الضعف والانقطاع بل وحدوث ردة كاملة عن معاني الزهد بالانكباب على ضدها، فلا تجد أولئك المترسمين برسوم الرهبنة إلا أحرص الناس على حياة، وفي سبيل تحصيل شهواتها يبذلون ما يبذلون!، فتتلاشى معاني الهيبة الزائفة عند معاقرة أي شهوة خسيسة زائلة، بل ربما كانت محرمة في نفسها يندى الجبين لها، وفضائح الكنائس والأديرة في الماضي والحاضر على ذلك خير شاهد، وكلما قامت حركة إصلاحية كحركة مارتن لوثر البروتستانتية استقام الأمر نوعا ما، فتخف آثار الفساد وإن كانت جذورها راسخة بنقض أصل التوحيد الجامع، ثم لا تلبث، أيضا، بمضي الأزمان وتعاقب الأجيال أن تفسد بل ربما فاقت في فسادها فساد الأصل الذي ثارت عليه برسم الإصلاح والتجديد، وقد أوقع البروتستانت مذابح لخصومهم تفوق مذابح الكاثوليك من قبلهم، وهو ما أثار دهشة المؤرخين في الغرب، كما يذكر بعض الفضلاء المعاصرين في معرض رصد لحركة التيارات الدينية المتصارعة في أوروبا النصرانية في القرون الوسطى ومدى تأثيرها على طائفة الموحدين النصرانية التي تقترب كثيرا لا سيما في أدوارها الأولى من دين التوحيد وإن عرض لها انحراف كبير في أدوارها المتأخرة، فالحركة الإصلاحية يفترض أن تأتي بالفرج والسعة لا بالكرب والضيق الذي يصيب الأمم بالإحباط، فالمستجير بهم كالمستجير من الرمضاء بالنار!، وذلك أمر رأينا طرفا منه في عالمنا الإسلامي في العقود الأخيرة التي سيطر فيها العسكر على الحكم برسم الانقلابات المتوالية التي لا يكابد آثارها إلا الشعوب المقهورة، فتستبشر الشعوب خيرا مع كل حركة تصحيح!، وليست إلا تصفية للخصوم والمعارضين، ومن ثم تظهر لها حقيقة الأمر فهو إلى مزيد سوء ونكد!.

وباينت النبوة من وجه آخر ما يطرح قديما وحديثا من سياسة الجور التي يزعم الملوك أنها الذريعة إلى صلاح الممالك، وما هي إلا وسيلة لترسيخ عروشهم ولو برسم الجور، فيزعم أولئك أن صلاح الكون في نبذ الدين، كما ينعق بذلك أفراخ العلمانية في زماننا، فذلك رد فعل أيضا، لغلو الأولين الذين نبذوا الدنيا بالكلية لما رأوا البشر قد انحطت رتبهم بتجاذب شهواتها تجاذب الكلاب للفريسة، فتلك صورة خسيسة تصدق في حق كل المتنافسين في تحصيل عرض الدنيا، ولكنها لا تصلح علة لهجر الدنيا، فذلك مظنة فسادها بتملك المفسدين زمامها، فقد أخلى لهم المصلحون الميدان ورفعوا لواء الاستسلام فلا أمل إلا بالانعزال السلبي دون مشاركة فاعلة في تهذيب النفس وإصلاح الغير على منهاج النبوة، فإن كان لا بد من الاعتزال في أزمنة الفتن والنوازل العامة فليكن ذلك برسم الإيجابية لا السلبية فلا يعتزل المؤمن الفاعل ما فيه صلاح دين أو دنيا، وإنما يعتزل ما فيه فساد الشرع والكون من معاقرة المحرمات أو فضول مباحات من مخالطة للبشر في غير حاجة، وإنما للتسلية المحضة! التي لا تليق بأرباب العقول الذين يدركون قيمة الوقت ويخشون انقضاء العمر بلا رصيد من علم نافع أو عمل صالح يشفع لهم عند الرب، جل وعلا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير